الببليوثرابيا! (من علاج القراءة إلى العلاج بالقراءة): 4.مقالات:إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي



الببليوثرابيا!
(من علاج القراءة إلى العلاج بالقراءة)
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

التهمة ما زالت موجَّهة إلى العرب أنهم أُمّةٌ صوتيَّة، لا تقرأ، ما برحت تعيش الشفاهيَّة في عصر الحاسوب والإلكترون. ويتردَّد القول إن عدم القراءة لديهم تراثٌ عريق، منذ مقولة «العلم في الصدور لا في السطور»، المحفوظة في الذاكرة، المكرورة كابرًا عن كابر، دون زيادة ولا نقص ولا نقد. لا، بل إن عرب اليوم- ولتردِّي علاقتهم المزرية بلغتهم، ومأزقهم في ازدواج المنطوق والمقروء- هم من أكثر الأُمّم، إنْ لم يكونوا أكثرها، معاناة في قراءة النصِّ المكتوب، dyslexia. ثم جاءت التقنية الحديثة- التي مَدَّت الجليسَ القديمَ في العالم الحديث بجلساء أكثر فطنةً، وأخفّ مؤونةً، وأسرع إيصالًا للمعلومة، من حاسوبيَّات، و«إنترنت»، وتلفزة، وقنوات فضائيَّة، وهواتف محمولة، والتي يُؤخذ على التعليم والثقافة عدم استثمارها الاستثمار الأمثل- لتنقلب في دنيا العرب إلى وسائل شفاهيَّة مستحدثة، تنوء بالثرثرة، والمتاجرة بالعواطف، وتتفيه العقول، وتضييع الزمن والجهد والمال. يَحدث هذا كلّه في الوطن العربيّ، في عصر جَعَلَ أهلوه يتحدَّثون عمَّا يُسمَّى علم «الببليوثرابيا»، أو العلاج بالقراءة. فهل من علاج للقراءة لدينا قبل العلاج بالقراءة؟!
ولو أن تلك الوسائط الاتصاليَّة قد وظِّفت ثقافيًّا التوظيف الجيِّد، لكان فيها ما يَجْبُر النَّقص لدى النشء في قراءة الكتب الورقيَّة، بل لربما كان فيها ما يُغني عن تلك الكُتُب. ذلك أن القراءة لدى جيل اليوم هي إلكترونيَّة أكثر منها ورقيَّة، ومستقبل النشر عمومًا سيكون إلِكترونيًّا لا ورقيًّا. فلقد تجاوزت شبكات النشر والتوزيع في العالم الكتاب التقليديّ إلى كتاب شريط الفيديو، والـ«سي دي CD»، والـ«دي في دي DVD»، والنشر الإلكترونيّ بأنواعه، ليكون الكتاب دائمًا في متناول الجميع، وبات بذاك في إمكان المرء أن يحصل على مكتبة كاملة في قُرصٍ حاسوبيّ. وهو ما لا يشكّ المتابع لتطوُّراته في أن العالم على مشارف انقضاء حقبةٍ وميلاد أخرى، انقضاء حقبة الكتاب الورقيّ وميلاد حقبة الكتاب الإلِكترونيّ. وعلى صعيد الإعلام المقروء، أصبحت الصحف الورقيَّة صحفًا إلِكترونيَّة، وتقلَّص حجم مبيعاتها، على نحو يُنذر، إنْ عاجلًا أو آجلًا، ببوار السلعة القديمة، أو انحصارها في نطاق يضيق يومًا بعد يوم. ولذا لم تعد المبالغة في الاحتفاء بالنشر الورقيّ واقتنائه تعكس بالضرورة حيويَّة ثقافيَّة، كما لم نعد في عصر المكتبة المنزليَّة العامرة، التي كان التباهي بها قديمًا، بل عصر الحاسوب و«الإنترنت»، اللذين بإمكانهما أن يمدّاننا بما نشاء؟ قلتُ هذا منذ حين، فانتفض لقولي أرباب القديم العقيم. وأعيده هنا؛ فما مَثَل منكريه إلّا كالمستنكفين قديمًا من الكتابة إبّان اتِّخاذها وسيلة تداولٍ معرفيٍّ. حدث هذا في تاريخنا الأدبي؛ فكان الشاعر مثلًا يخشى أن يعلم الناس أنه يكتب شِعره؛ لأن الشاعر الشاعر يومئذٍ هو الراوية المرتجل. كما حدث في تاريخنا المعرفي، يوم كانت المفاخرة بالحفظ والإلقاء اعتمادًا على الذاكرة. ضاربين المثل بمن علمه في القراطيس، لمن لا وزن له في العلم والمعرفة. حتى لقد باهى (الجاحظ) بعبقريَّة العرب الأوائل، التي من معاييرها لديه أنْ كان كل شيء لديهم إنما ينثال بديهة وارتجالًا، وبذلك استحقُّوا التفضيل على الفُرس المعتمدين على المكتبات. [حول هذا: راجع كتابنا «ألقاب الشُّعراء»، ص13- 14]. فما أشبه الليلة بالبارحة! من جهة أخرى، فقد بات هَمُّ الرقابة الذي ينصبّ على منع الكتاب الورقيِّ، وهَمُّ الناشر الذي يُصِرُّ على ترويج كتابه الورقيّ، بلا معنى، في وقتٍ الكتابُ فيه متوافر إلكترونيًّا، ومجانًا، مُنعت أوراقه أو فُسحت. مثلما أن صراع الجماهير حول الكُتب الورقيَّة هو صراع في ذِمَّة الماضي، فلا جدوَى منه، ما دامت ثورة الاتصالات الحديثة قد أضحت كفيلة بالإصلاح بين الطرفين بجعل الكتاب الممنوع أو المرغوب متاحًا لمن شاء، بلا معارض، ولا خصام، ولا استنفار للأمن وقوات منع الشغب! لقد انكسرت الحواجز والحُجُب في عصر النشر الإلكترونيّ، وتُخطِّيت خطوط الرقابة بجميع ألوانها، ولم تبقَ هنالك إلَّا مسؤوليَّة الكاتب والناشر، في توخِّي الأمانة، والصِّدق، والحفاظ على الذوق العامّ، وحقوق الآخرين الفكريَّة، والأدبيَّة، والاجتماعيَّة. لم يَعُد حقُّ الحصول على المعلومة في أيدي من يسمِّيهم (نعوم تشومسكي) بـ«الأشخاص الجمعيِّين الخالدين القادرين». [انظر: (2004)، الدُّوَل المارقة: استخدام القوّة في الشؤون العالميَّة، تعريب: أسامة إسبر (الرياض: مكتبة العبيكان)، 266].
وإذا كانت المادَّة التاسعة عشرة من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، الصادر بموجب قرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتحدة، في 10 ديسمبر 1948، قد نَصَّت على: أن «لكلِّ شخص الحقّ في حريَّة الرأي والتعبير، ويشمل هذا: الحقّ في حريَّة اعتناق الآراء دون أيّ تدخُّل، واستقاء الأنباء والأفكار، وتلقِّيها، وإذاعتها، بأيَّة وسيلةٍ كانت، دون تقيِّد بالحدود الجغرافيَّة»- [حقوق الإنسان، المجلد الأول، (الأمم المتحدة، نيويورك، 1993، A.94.XIV-Vol.1, Part 1)، ص1]- فقد هيَّأتْ وسائط الاتصال المعاصرة تمتُّع الإنسان بهذا الحقّ، من أوسع الأبواب. على الرغم من أن هناك دُوَلًا ما زالت تكافح تلك «السوق الحُرَّة للأفكار»، وعلى رأس تلك الدول الولايات المتحدة الأميركيَّة، إمَّا بالهيمنة سعيًا لضمان أنْ تبقَى صناعة الاتصالات في أيدٍ أميركيَّة، أو بتسخيرها للمتاجرة بالأفكار والمواقف، أو بتوجيهها إلى الاستهلاك واللهو ونشاطات أخرى تدمِّر الشخصيَّة. [انظر: تشومسكي، م.ن، 267- 274].
وإن عاقبة الجَبْر النِّفاق! وما أكثر المنافقين في مجتمعاتنا! وهم ضحايا ثقافة الرأي الواحد الأوحد! ذلك الرأي الذي تُكافح العقليَّات التقليديَّة اليوم من أجل حجب ما يُقابله ومنعه، ما استطاعت إلى ذاك سبيلًا، حتى عبر الوسائط الحديثة، كي يسود نفاقٌ وسائطيٌّ كذلك، بدا أن وسائط الاتصال الحديثة في سبيلها إلى تقليصه، لتجريء الناس على البوح بما لم يكونوا يجرؤون سابقًا على البوح به، حتى لأنفسهم، أو في أحلامهم!
غير أنه كان ينبغي، إزاء لغة العصر الجماهيريَّة تلك، سَنُّ الضوابط الحمائيَّة منها أيضًا. فالحُريَّة في مجتمعٍ جديدِ عهدٍ بالحُريَّة- لا تَحكمه ضوابط تربويَّة، ولا قوانين اجتماعيَّة دقيقة وفاعلة- قد تكون ذات عواقب تدميريَّة. ولاسيما أن ما يدور إلكترونيًّا يتعدَّى اليوم ما تنشغل به الرقابة التقليديَّة عادةً، من جملة شاطحة هنا أو عبارة نابية هناك. فالنشر الإلكترونيّ حافل بألوان السعي بالنميمة، والقذف، والتهييج، والتجييش، والتشويه، وأشكال كثيرة من العدوان على الشخصيَّات، والجماعات، والقِيَم العامَّة، والمبادئ، دينيَّةً ووطنيَّةً وإنسانيَّة. وإذن، فإمَّا أن يُعاد النظر جذريًّا في إشكاليَّات الرقابة بكلِّ آليَّاتها وأبعادها، مواكَبةً للمتغيِّرات المعاصرة الواسعة الخَرْق- وبما لا يَكبت الحُريَّات، ولا يُسقط الحقوق الفكريَّة والأخلاقيَّة، ليفتح السدَّ على مصراعيه ليأجوج ومأجوج- وإلَّا ستظلّ الرقابة بنهجها القديم عبثًا في عبث.
أجل، قد يجادل بعضٌ بأن تخلُّف التقنية في عالمنا العربي، وكذا تخلُّف مستخدميها، أمرٌ واقع. ومن مظاهر هذا تعطُّلها المتكرِّر، أو تعطيلها، أو عدم ثباتها، مع تجاوزات فيها لا يحكمها قانون. وهو اضطراب نادرًا ما يُلحظ نظيره في الشبكات الغربيَّة، حيث بوسعك هناك اعتماد الأوعيّة الشبكيَّة والإحالة إليها في معظم الحالات كما تحيل إلى كتاب ورقيّ! ذلك صحيح، وهذا- بطبيعة الحال- وضعٌ لا يتعلَّق بالفارق التقني بيننا وبينهم فحسب، بل كذلك بالفارق الثقافي، على مستوى الأفراد والجماعات. فثقافتنا ثقافة تصحُّر، وترحُّل، وأطلال، وتبديل ديار، وبنى ثقافيَّة غير مؤسَّسة، ولا يمكن الركون إليها، ولا التنبؤ بمآلاتها، كما هي ثقافة: «وَفي الغَزْوِ أَلقَى أَرغَدَ العَيشِ لَذَّةً»! إلَّا أن هذا غير مسوِّغ للإعراض عن الأخذ- وإنْ بحذرٍ- بهذه التقنية. فلا مناص من أن نَمُرَّ بهذه المرحلة، كما مررنا بمرحلة الرواية الشفهيَّة وعثراتها وضياع موادِّها؛ إذ كان المعتمَد على أمانة الراوي، ثم مررنا بمرحلة المخطوطات البدائيَّة، بأدواتها القابلة للتَّلَف، أو الغرق، أو الحرق، أو الامِّحاء، قبل الوصول إلى عصر المطبعة في القرن الخامس عشر، بما أتاحه من ضمانات نسبيَّة أكبر لبقاء الشواهد النصيِّة. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».


15/ 8/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
 | 

....................................................................................................

* صحيفة "الرأي" الكويتيَّة، الثلاثاء 14 أغسطس 2012 م، ص22.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/A3709ECC-1F23-45E1-A952-97C9442C46D6/P22.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=372072&date=14082012



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©