ما مستقبل الشِّعر العربيّ، بوصفه لسان العرب، وذاكرتهم، وديوانهم- في ظلّ الوسائط الاتصاليّة المعاصرة، والنهج العربي الموظِّف إيّاها في خدمة الأهواء، والشعبيَّات، والعاميَّات، والعصبيَّات؟
إن الشِّعر فنٌّ نخبويٌّ بطبيعته، وفي كُلّ العصور. على أنّ طبيعة الشِّعر المعاصر قد زادت الهُوَّةَ بين القصيدة والجمهور. بل بين ناقد الشِّعر والقارئ، وهو ما وصفه الشاعر الأمريكي (دانا جيويا)- مؤلِّف كتاب «أما زال للشِّعر مَحَل؟ Can Poetry Matter?»- بقوله: «تبدو النقاشات الدائرة حول الشِّعر كما لو كانت مناظَرةً في السياسة الأجنبيَّة، أقطابها أجانبٌ، منفيُّون في مقهىً مهلهل!» وبذا يعبِّر جيويا عن أن من أهم مشكلات الشِّعر اليوم مشكلة التلقِّي، لا مشكلة الإنتاج؛ فهو يتحدَّث عن «غزارة غير مسبوقة اليوم في طباعة الدواوين والمجلّات الشِّعريّة، والنقدُ المطبوع الذي يعالج قضايا الشِّعر المعاصر يملأ صفحات الدوريّات الأدبيَّة والجرائد اليوميَّة الجامعيَّة... وحتى الكونغرس الأمريكيّ أوجد منصب الشاعر القوميّ، كما فعلتْ ذلك خمسٌ وعشرون ولاية.» [انظر: مجلّة «القافلة»- السعوديّة، عدد يناير- فبراير 2008، ص ص12- 23]. ولكن أين الجمهور؟ لقد غُيِّبَ الشِّعرُ كثيرًا- على الرغم من تفاؤل جيويا- في وسائل الإعلام في العالم أجمع، وما زال، إذا ما قورن بالفنون الأخرى، السرديَّة أو البصريَّة. ثم تأتي تلك الوسائل لتتّهم الشِّعر بالتراجع عن مواكبة الحياة!
صحيح أن الشِّعر- قديمًا وحديثًا- لا يُراهِن عن الجمهور الآنيّ، بالضرورة، وإنما على الجمهور الافتراضيّ الزمنيّ-- وكم من الشعراء تأخَّر حضور الجمهور إلى أصواتهم عن الجيل الذي عاشوا فيه-- إلاّ أن السؤال، ونحن في عصر السرعة والصورة والحاسوب و«الإنترنت»: ألا يمكن للشِّعر، بطبيعته الاختزاليَّة التكثيفيَّة، إنْ هو خرج من قواقعه، أن يكون المرشَّح الأوّل لمواكبة عصر ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات؟!
ألا نلحظ، مثلًا، أن القصيدة الآن هي الأكثر مواتاة من أيّ جنسٍ أدبيٍّ آخر للبثّ والتلقّي عبر البرمجيَّات وشبكات المعلومات المختلفة؟! وهذا ما استغلَّه أرباب الشِّعر العامِّيّ، حتى عبر الرسائل النصيِّة القصيرة في الهاتف الجوّال. فهل يُبادر الشِّعر الحديث إلى استثمار خصائصه النوعيَّة، الموائمة للتقنية الحديثة، لتوسيع رقعة انتشاره وتأثيره؟
إن آليات الاتصال التقليديَّة- كما قال جيويا- قد تفكَّكت، ويجب البحث عن بدائل معاصره. وتأتي تجربة النّصّ الإلِكترونيّ التفاعليّ- الذي قد يُطلَق عليه: (النص المترابط Hypertext)، أو (النصّ الإنترنتّي Cyber text)- لتشكِّل، وعلى نحو أفضل من التقنية التقليديَّة التي ركَّز عليها جيويا في حديثه عن أهميّة الراديو لنشر الشِّعر، رافدًا اقتحاميًّا للحركة الشِّعريَّة، الآنيَّة والمستقبليَّة، ومن خلال عصرنا الإلِكتروني هذا، الذي يُشاع أنه لم يَعُد عصر شِعر؛ لأنه لا يراد له أن يكون كذلك؛ لأن الشِّعر ثورة، وتحريضٌ على التغيير، وتهييجٌ للمشاعر، التي قد يُبغَى لها أن تظلّ مخدَّرةً، ساكنةً، هامدةً، مجترَّة. ذلك أن الشِّعر الحقيقي مُقِضُّ مضاجع، سياسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة، أكثر من أي جنسٍ أدبيٍّ أو فنِّيٍّ آخر. وإذا كان هنالك من نَعَتَ المسرح بأنه أبو الفنون، فإن الشِّعر أبو الفنون وأمُّها؛ من حيث هو، تاريخيًّا، رَحِم الأجناس الأدبيَّة الأخرى، بما في ذلك المسرح، ومن حيث ظلّ يحمل في جيناته عناصر الفنون والآداب المختلفة، من صوتيَّة وبصريَّة وتشخيصيَّة، يفجِّرها تفجيرًا، وإنْ على نحو سِحريّ، في وجه كلّ طاغيةٍ أو واقعٍ عليل. ذلك هو الشِّعر، الذي ما انفكَّت المحاولات، التاريخيّة والمستمرة، في سبيل تشويهه، وتحريفه، وتهجينه، أو إقصائه، واعتقاله، واغتياله. وميزة الشِّعر الحيويَّة الأخرى، إلى ما سبق، أنه حاضر الاستجابة، آنيّ التلقِّي والتفاعل. وإنْ كان ذا شروطٍ صعبة المزاج في تحقُّقها، يَضِن بنفسه على غير أهله؛ إنْ هم لم يَفِرُّوا من وجهه طائعين، عاجزين أو جافلين، طَرَدَهم شرّ طِردة، شامسًا كالفرس الأصيل.
ومهما يكن من شأن، فما نبالغ في القول إن بإمكان القصيدة أن تنغرس في نسيجنا العالميّ العولميّ، أكثر من أيّ جنسٍ أدبيٍّ آخر؛ كي تُثبت أنها- وقد صحبتْ رحلة الإنسانيَّة منذ الأزل- هي أكثر الأجناس الإبداعيَّة قدرةً على مسايرة العصور، وصولًا إلى روح الإنسان، أنَّى كان. [انظر تفصيلًا حول هذا في دراسة لي بعنوان: «نحو نقدٍ إلِكترونيّ تفاعليّ»، (مجلّة آداب المستنصريّة، كليّة الآداب، الجامعية المستنصريّة، العراق، العدد السابع والأربعون، 1429هـ= 2008م، ص ص 241- 250)، أُعيدَ نشرها في: دوريّة «الآطام»، النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنوَّرة، العدد الرابع والثلاثون، ربيع الآخر 1430هـ= أبريل 2009م، ص ص 31- 36)].
على أنْ لا مراء في أن لكلّ جنسٍ أدبيٍّ عبقريَّته وطاقاته التعبيريَّة الخاصَّة، وله تلبياته لحاجاتٍ إنسانيَّةٍ أكثر من سواه، ولا يعوِّضها جنسٌ أدبيٌّ آخر، كما أنّ لكلّ جنسٍ متلقِّيه وجماهيريَّته النوعيَّة. لأجل هذا كثيرًا ما تكون المقايسات في هذا المضمار مضلِّلة. علاوة على أن بعض المفاضلات قد لا تنجو، في كلّ حالٍ، من سياقاتها المتعالقة بتيّاراتٍ عولميَّة، تنحو إلى مناسخة الشعوب في تجاربها، واجتثاث الثقافات القوميَّة من جذورها، وتذويب اللغات الوطنيَّة، أو تفتيتها في لُغيَّات لهجيَّة شتَّى، ومحاصرة قِيَم حادَّة يظلّ الشِّعر رسولها، وديوانها، لدى الأُمم جميعًا. وليست الحملة الشِّعريَّة التي شنَّها بعض الشعراء الأميركيِّين ضِدّ حرب (جورج دبليو بوش) على العراق في العِقد الماضي، مثلًا، وما قوبلت به من قَمْعٍ، إلّا نموذجًا تاريخيًّا واحدًا، يدلُّنا على مقدار إمكانيَّة أن تغدو الكلمة الشِّعريَّة مزعجةً لنوازع من اللا إنسانيّ في الإنسان. لماذا؟ لأن الشعراء بطبعهم يرفضون الانحناء للعاصفة كي تمرّ! وقد ضاق بحماقتهم تلك حتى أفلاطون، فأوصد أبواب مدينته الفاضلة دونهم! أمّا في فضائنا العربيّ، فتأتي من مؤشِّرات اليقظة الشِّعريّة، العِلميَّة والإعلاميَّة، بعض المؤتمرات حول الشِّعر، والملتقيات النقديَّة، ومهرجانات الشِّعر ومسابقاته، بما لهذه الأخيرة من إيجابيّات وما عليها من سلبيَّات. وتأتي أهميّة هذا الفعل الإعلاميّ الشِّعريّ من حيث إن الشِّعر يظلّ روح اللغة، ولاسيما في لغةٍ شِعريّةٍ كاللغة العربيَّة، يبدو في انهيار شِعرها مؤشرٌ على انهيارها ذاتِها، وانهيار مَن ينتمون إليها. ولقد قال جيويا، مُحِقًّا: إن «من الصَّعب جدًّا أن نتخيَّل كيف يعالِج مواطنو أُمَّةٍ ما صِحَّة لغتها، ما داموا متخلِّين عن الشِّعر.»
بيد أن الإعلام سلاح ذو حدّين، فبمقدار ما يمكن أن يُفيد الشِّعر، يمكن أن يُضِرّ به، بتسليعه والمتاجرة به، كما يفعل بالأجناس الأدبيّة الأخرى. وهو غالبًا ما يفعل ذلك اليوم، كما فعل من جهة أخرى بالفنون السرديَّة، التي ظهر تأثيره في جوانب متعدّدة منها: كنشره النصوص الروائيّة والمسرحيّة، بعد تحويلها إلى أعمال تلفازيَّة أو سينمائيَّة. وبتغذيةٍ راجعةٍ، أخذت تظهر آثار تلك الأعمال الإعلاميَّة، إيجابيَّةً وسلبيَّةً، على أساليب الكتابات وتقنياتها. لتنتهي بعض النصوص السرديّة إلى ما يُشبه المسلسلات التلفازيّة العربيَّة، المعتمد بناؤها غالبًا على الحوار، في ذكريات تترَى، ومواقف متعاقبة، على حساب ما ينبغي من رسم شخصيَّات، وتحليل نماذج، وتصوير أحداث. كما ظَهَر في بعضها تغليبٌ واضح للرسالة الإعلاميَّة- تربويَّةً أو اجتماعيَّةً أو سياسيَّةً أو فكريّةً- على تجويد البناء الأدبيّ فنِّيًّا، أو افتراع أبنيةٍ جديدة؛ فبَدَت بذلك وسائطَ قيميَّةً، وكأنما كُتبتْ فقط من أجل إيصال مضامين أخلاقيَّة معيَّنة، محافظة أو منسلخة. كما أثَّرت بعض الأعمال السينمائيَّة، من جهة، وكذا الهوس الإعلاميّ المعاصر، من جهة، في ظهور موجةٍ عارمةٍ من الروايات المبتذلة، ضعيفة النسج والبناء واللغة. غاية ما فيها هوسٌ بأمرين: لذة غريزيَّة اجتماعيَّة في تذوّق الممنوعات- ولاسيّما في مجتمعٍ مكبوت، ووَفق تربية أُغرمت منذ نعومة العقل والروح بتتبّع العورات- وفراغ النميمة وعجز القيل والقال. فإذا أعمالٌ من ذلك القبيل تتساقط على الرؤوس- دون قِيَمٍ جديدةٍ بانية، ولا رؤى جادَّة مضيفة- لا تعدو تحويلَ ما كان يدور على الشفاه بالأمس إلى ما صار يدور على الأقلام- بعد الأفلام- اليوم.
19 يونيو 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتيَّة، العدد 12041 الثلاثاء 19 يونيو 2012، ص24.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/AA685EA8-AE56-4BCB-A735-4CA44EB1B807/P24.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=359623&date=19062012
|