الإيقاع وطبيعة اللغة!: 4.مقالات:إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي



الإيقاع وطبيعة اللغة!
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

في حكاية شِعرنا الحديث يحدث أن يُدلي بعض مانحي الجنسيَّة الشِّعريَّة للنثر بأدلَّةٍ على دعواهم من خارج طبيعة اللغة، ليقيسوا فنونها بالفنون الأخرى البَصَريّة وغير البَصَريّة. وهم بذلك يغادرون ساحة النقاش أصلًا، ليسبحوا في أفلاك أخرى، لا ليجرِّدوا الشِّعر من الشِّعر فحسب، بل ليجرِّدوا اللغة من طبيعتها كذلك، حينما ينفون أهميَّة المكوِّن الصوتيّ في شِعريَّة البناء الشِّعري! وعندئذٍ، ماذا نفعل؟ "ما على أبي حنيفة في أن يمدّ رجليه ملام"! فقد برح الخفاء، وبدا أن الشِّعر (المذكور) لم يعد حتى من جنس اللغة العربيَّة، ناهيك عن أن يكون من جِنس الشِّعر! والحقّ أن هذا ما نلحظه في بعض النصوص المنتمية إلى هذا الشكل الكتابي؛ إذ هي ليست من الفنّ القوليّ في شيء، لا شِعْرِيِّهِ ولا حتى نَثْرِيِّه. ذلك أن هناك فارقًا بين تهويمات المجانين وخيالات الشعراء؛ من حيث إن الشاعر فنَّان، يُكسب خَطَرات الجنون إيقونات جماليَّة، تتواصل مع قابليَّات التلقِّي السويِّ واللغة الشاعرة. إن الشاعر يُحوِّل الجنونَ إلى جمالٍ معقول، فيما المجنون مجنون، لا يحوِّل شيئًا إلى شيءٍ؛ فيظلُّ نتاجه لوثةَ قُبحٍ وتنافرٍ، لا فنّ فيها ولا جمال. فمجنون ليلى لو لم يكن فنَّانًا، صانعًا، شاعرًا، لبقي كلامه كلام مجانين، لا قيمة له، اللهم إلَّا في عيادة طبيبٍ نفسيٍّ، يهتمُّ بتحليل تلك الخواطر الهذيانيَّة لعلاج مريضٍ، لا بتحليل نصٍّ أدبيٍّ، وإجراء دراسة نقديَّة في قيمةٍ تعبيريَّة جماليَّة!
أمَّا «تاسعة» الأثافي، فالاحتجاج بأهميَّة الإيقاع فقط، لا الوزن! فيقولون: إن قصيدة النثر، وإن خَلَت من الوزن- ولا ينسون هنا أن يضيفوا لازمتهم: "الخليليّ التقليديّ"!- إلَّا أنها- قدَّس الله سِرَّها وسِرَّ من خلَّفوها!- لا تخلو من الإيقاع.
فما هذا الإيقاع اللدُنِّيُّ، يا تُرى؟
أ هو (النَّبْر)؟- الذي لا قانون له في العربيَّة، ولا يؤثِّر أساسًا في الدِّلالة العربيَّة، أو في الموسيقى اللغويَّة، ومِن ثَمَّ فلا قاعدة لاستعماله؛ لاختلاف طبيعة اللغة، ذات التكوين (الحركيّ) في إيقاعاتها، لا المقطعيّ، ولا الكمِّي، ولا النَّبري(1)، - أم هو ما كان يسمِّيه (إبراهيم أنيس) وغيره: «الموسيقى الداخليَّة»، أيْ تناغم الكلمات والحروف؟
لا ندري! ولا هم يدرون، ما إيقاعهم المزعوم، وما محدِّداته بالضبط.. أو بغير الضبط؟
إن الإيقاع أصلًا مرتبط بطبيعة اللغة، وبنواميسها البنائيَّة، واختلاف المنطوق فيها عن المكتوب، إلى غير ذلك من الخصائص النوعيَّة. ولهذا كان العَروض اليونانيّ كمِّيًّا، فيما الإنجليزيّ والألمانيّ نبريًّا، وكان العربيّ (حركيًّا)(2). ومن هنا يبدو الترابط «الجيبني»- إذا صحّ التشبيه- ناشئًا عن طبيعة اللغة، مؤثِّرًا في: البنيات اللغويَّة، ثم في العَروض، فالموسيقى. وعلاقة عَروض الشِّعر في أيّ أُمَّة بطبيعة لغتها حقيقةٌ عِلْميَّةٌ، وليست تخرُّصًا. حتى لقد نظر بعض اللغويِّين إلى العَروض بوصفه مِسبار الهُويَّة اللغويَّة، ومقياس الطبيعة النوعيَّة الخاصَّة بها. لذلك كان يقول (إدوارد سابير)(3): «ربما ليس هناك ما هو أفضل إيضاحًا لاعتماد الأدب على طبيعة اللغة أساسًا من (الجانب العروضيّ في الشِّعر). لقد كان النظم الكمِّيّ طبيعيًّا تمامًا لدى الإغريق، لا لمجرد أن الشِّعر نشأ على اتِّصال بالأغنية والرقص، ولكن لأن التناوبات من المقاطع الطويلة والقصيرة كانت حقائق لغويَّة حيَّة بشكلٍ دقيقٍ في اللغة المتداولة اليوميَّة... لذلك فلعلّ الأوزان الكمِّيَّة البحتة التي صيغت على غرار اليونانيَّة قد بَدَتْ كظِلٍّ مصطنعٍ أكثر ممَّا كانت عليه في لغتها الأصلية. كما أن المحاولة لصَبِّ الشِّعر الإنجليزيّ في قوالب لاتينيَّة ويونانيَّة لم يُحالفها النجاح قَط.»
هكذا يقول الناس عن لغاتهم وفي شِعرهم. هكذا يُقال في بلادٍ لا يُخايلها السراب، ولا تشرئبُّ أعناق أبنائها نحو الأصنام، ولا تَمنح نياشين النعوت كلَّ ناعق. لا كثقافة من الحجارة والأوثان، يغدو اللقب الأسنَى فيها: «فلان هَرَمٌ في كذا»! وقد يكون هَرَمًا هَرِمًا بالفعل، ولكن من الجهل والجهالة والادِّعاء والتخبيص.
فإلامَ يُشير قول سابير؟
إنه يُشير إلى أن البناء العَروضيّ مشتقٌّ من طبيعة اللغة القوميَّة الخاصَّة، ولم ينشأ اعتباطًا، أو اجتلابًا من خارجها. وما دامت للعَروض تلك القيمة اللغويَّة، فإنه ليس زينة شكليَّة، أو كماليَّة، أو مكوِّنًا كسائر المكوِّنات البلاغيَّة في الشِّعر، بل يُعَدُّ أخصّ خصائص الشِّعر، ومن أدقّ مقاييس اللغة القوميَّة. إنه نبض اللغة الخاصّ بهذه الأُمَّة أو تلك. بنفيه ننفي عن الشِّعر طاقته التعبيريَّة العُظمَى، وملامح شخصيَّته النوعيَّة، كما ننفي عنه وظيفته اللغويَّة المائزة، التي تُستشفّ من وصف سابير الآنف لعلاقة العَروض بطبيعة اللغة. وبذا يظهر إلى أيِّ مدى تُجازف تلك النظرة إلى موسيقى الشِّعر، باستخفافٍ فنِّيٍّ، وجهالة معرفيَّة، ورعونة لُغويَّة.
غير أن «الإيقاع»- البديل الوهميّ المزعوم- بات حُجَّة من لا إيقاع له ولا حُجَّة! على أن الإيقاع المتذرَّع به لتعويض النقص، والذود به عن حياض قصيدة النثر، موجود في النثر العربيّ بالطبع، فالعربيَّة لغةٌ موسيقيَّة بامتياز، وهو في كلّ لغةٍ بشريَّة بدرجات متفاوتة، بل وجوده في الكون كلِّه؛ حتى لقد عبَّر عن ذلك الفيثاغوريُّون(4) قديمًا من خلال مقولتهم: "العالَمُ عَدَدٌ ونَغَمٌ". إذن، الإيقاع، من حيث هو، قائم حتى في النثر العربيّ، والشواهد على ذلك بلا حصر. والقضيَّة ليست في وجود الإيقاع في قصيدة النثر، على فرض وجوده، وإنما في السؤال: هل هو إيقاع شِعريّ؟ أي بحسب طبيعة الإيقاع الشِّعريّ العربيّ، أو متجاوب مع الأذن الموسيقيَّة الشِّعريَّة العربيَّة؟ وهل هو- من وجهٍ آخر- ذو وظيفةٍ تعبيريَّة؟ أم هو اعتباطيّ الحضور، ومِن ثَمَّ يصبح بلا قيمة تعبيريَّة في النصّ؟
..أسئلةٌ تُجيب عن نفسها!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كما أوضحتُ في كتابي (حداثة النص الشِّعري في المملكة العربيَّة السعوديَّة: قراءة نقديَّة في تحوُّلات المشهد الإبداعي، (الرياض: النادي الأدبي، 2005) ، ص137- 138). فيما هناك من اللغات، كالإنجليزيّة، ما يعتمد المعنى فيها على مواضع النَّبْر، فقد لا يمكن مثلًا التفريق بين اسم وفعل إلَّا بالنَّبْر.
(2) أفضِّل هنا استعمال مصطلح (النظام الحَرَكِيّ)، على استعمال (النظام الكمِّيّ)؛ لأن نظام المتحرِّك والساكن هو نظام العَروض العربيّ، كما استنبطه الخليل، وهو نظام اللغة العربيَّة نفسها. ويعتور الاضطراب كلّ المحاولات الحديثة لتطبيق النظام الكمِّيّ للمقاطع الخمسة- القصير، والمتوسِّط: بنوعَيه المفتوح والمغلق، والطويل: بنوعَيه الثلاثي والرباعي- على العَروض العربي، حينما تقع الزحافات، وما أكثر جواز وقوعها في العَروض العربي. في حين أن ما نسمِّيه النظام الحركيّ هو ما يتماشَى مع طبيعة العَروض العربي ويفسِّر ظواهره. ومن العجب إصرار بعض الدارسين المحدثين- تابعين لبعض المستشرقيـن- على تطبيق الأنظمة العَروضيَّة الغربيَّة على الشِّعر العربي، وكأن تلك الأنظمة (كونيَّة)، لا ينبغي أن يندّ عنها نظام عَروضيّ في العالم! وقد أرهقهم المسعَى لقسر العَروض العربيّ ليتماشى مع تلك الحسابات العَروضيَّة الغربيَّة الخاسرة، المتعلِّقة بالمقاطع والكَمّ والنَّبْر، وفي غير هدفٍ علميٍّ واضح؛ فنظريَّة الخليل أدقّ وأوفَى وأوفق لتفسير النظام الإيقاعيّ الخاص بالشِّعر العربيّ، ذي الطبيعة النوعيَّة المختلفة عن الشِّعر الغربيّ. إنما هو الحَذْو العِلْميّ الحديث، بعد الحَذْو الأدبيّ! للتفصيل في مناقشة هذه القضايا، والجدل الدائر حولها، نحيل القارئ على أطروحة قيِّمة للدكتوراه، بعنوان «العَروض: دراسة في الإنجاز»، للباحث (الدكتور محمَّد علي الرَّباوي).
(3) Sapir, Edward, (1921), Language- an introduction to the study of speech, (New York: Harcourt, Brace), "XI. LANGUAGE AND LITERATURE", paragraph 10, p.109- 110.
(4) نسبة إلى (فيثاغورس)، ذي المدرسة اليونانيَّة التي تُنسب إليه. ومن المعروف أن مدرسة فيثاغورس كانت تقابل في التوجُّه مدرسة أرسطو والمشَّائين، وهما مدرستان أفرزتا في التراث الإسلامي المدرستين المتقابلتين كذلك: الباطنيَّة، ذات الفلسفة الغنوصيَّة، والمدرسة العقلانيَّة، التي تتخذ من العقل/ «اللوغس» مرجعيَّتها. (انظر في هذا مثلًا: الجابري، محمَّد عابد، (2002)، مدخل عام: «تاريخ العلاقة بين الدِّين والفلسفة في الإسلام»، على كتاب «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتِّصال»، لابن رشد، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة)، 18). وكأنما قصيدة النثر، إذن، تعوِّل في دعواها على تصوُّرٍ غنوصيٍّ للإيقاع، يقوم على العرفان الباطنيّ، لا على التحقُّق العِلميّ، الممكن إثباته وقياسه!


8/ 11/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
 | 

....................................................................................................

* صحيفة "الرأي" الكويتيّة، الثلاثاء 6 نوفمبر 2012 م، ص24.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/5894824D-093C-4C34-BD26-7C9501C1174A/P24.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=390337&date=06112012



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©