لأدونيس (علي أحمد سعيد) كلامٌ عميقُ المسؤوليَّة في سياق النظر إلى علاقة اللغة بالحداثة، لا نسوقه لأنه يمثِّل اكتشافًا، بل لمكانة أدونيس عرّابًا للحداثة العربيّة الأدبيّة، أو بالأصح: الحداثة الشِّعريّة، وهو مرجع الحداثيِّين الأكبر، الأُصلاء منهم ومدَّعي الحداثة معًا. وإلّا فما يقوله يُعَدّ من بدهيّات الأفكار، في زمنٍ أضحت البدهيّات رجعيّات منكَرة في بعض الأذهان.. حيث يقول: «لا يمكن أن تُحدِّث أو تخلق ثقافة حديثة بلغةٍ غير اللغة العربيّة. لا يمكن أن تخلق حداثة جديدة في المجتمع العربيّ بلغة إنجليزيّة، أو بلغة فرنسيّة، أو بأجوائهما؛ يجب أن تخلق حداثتك بلغتك؛ لأن اللغة هي أعمق ما يفصح عن الهويّة، وبهذا المعنى كانت عنايتي باللغة. اللغة لا تنفصل عن الحياة ونبضها وحركتها، ... وإذا أنا شدَّدتُ عليها [المسألة لغوية]، لكي أقول: لا مجتمع، ولا ثقافة، بدون لغة خاصّة، ولغة المجتمع العربيّ هي اللغة العربيّة، وإذن بأدوات هذه اللغة وبعبقريّتها يجب أن نخلق حداثتنا، وكلّ التأثرات الموجودة التي تأتي من الخارج، إذا لم تُصهر في عبقريّة اللغة العربيّة لا جدوى منها ولا معنى لها. تُصبح كأنها أدوات خاصّة مثل: الطيارات، والسيارات، والبرّادات، ملصقة على حياة المجتمع لصقًا، وليست نابعة منه. الحداثة هي أن تنبُع من ذاتها.»(1)
وهل نقول غير هذا في الشِّعر؟! فقصارى القول: إن للشِّعر العربيّ هويّة عريقة، تختلف عن هويّة الشِّعر الغربيّ، اختُطفتْ، ويراد لها التغريب عن منابتها. وهي هويّة ساميَّة، لا عربيَّة فقط، موغلة في القِدَم. نجد ملامح منها في شِعر بعض اللغات الساميّة، منذ آلاف السنين. وما نحا جيلٌ من العرب إلى تحطيمها إلّا في القرن العشرين الميلادي. ولعل من شواهد هذا ما نشره الباحث العراقي (علي الشوك)(2) تحت عنوان «ترجمة عربية أُولى لقصيدة فينيقيّة عمرها 2800سنة»، حول نصّ من أقدم النصوص بالأبجديّة الفينيقيّة، عُثر عليه في العام 1902، في بلدة زنجرلي، شمال غرب سوريّة. وقد كُتب بمناسبة تشييد قصرٍ ملكيٍّ، يعود تاريخه إلى النصف الأخير من القرن التاسع قبل الميلاد. وكان يُعتقد أنه نصّ نثريّ، قبل أن يشير رولنغ إلى أن هناك ما يدعو للاعتقاد أنه شِعريّ. ويذهب الباحث البريطاني تيرنس كولنز إلى أن «هذا النص أحد النماذج الشِّعريّة الفينيقيّة التي تركت بصماتها على الشِّعر العِبْرِي». وحينما نقرأ ما نشره الباحث الشوك عن تلك القصيدة، نُرجِّح أنها شِبه أرجوزة، أو على وحدات نغميَّة شبيهة بوحدة الرجز (مستفعلن). فقد ذكر الباحث أننا «إذا قرأنا النص الفينيقي قراءة حرفيّة، نجد أن السطر الأول لا يختلف عن قراءته باللغة العربية، فهو بالفينيقيّة: «م ل ك. ج ب ر. ع ل. ي ء د ي- و ب ل. ف ع ل». ويعني: «الملك جبر (أو جبار) على [لعلّها: علا] يوءاديّة، أي ارتقى عرش يوءاديّة- وبلا فعل، أي أنه لم ينجز شيئًا».» ولدى تأمّل هذا الشطر- كما نقله الباحث- يبدو كما لو كان شطرًا، أو بيتًا، من أرجوزة، هكذا: (مَلِكْ جُبَرْ/ عَلْ يئديْ/ وَبِلْ فِعِل)! كما يشير الباحث في تعليقه على القسم الثاني من القصيدة قائلًا: «جاء السطر الأوّل... باللغة الفينيقيّة على النحو الآتي: «أ ن ك. ك ل م و. ب ر. ح ي ء- ي ش ب ت. ع ل. ك س ء. أ ب ي»، ويعني بالحرف الواحد: «أنا. كيلاموا [كذا]. ابن. حي- وثبت (أي جلست). على. عرش. أبي.» ذلك أن (أ ن ك) الفينيقيّة تعني «أنا»، والكلمة التي تُقال للجلوس بالفينيقيّة هي (ي ش ب)، أي (يثب)، وهذه تعني (يجلس) في اللغات الساميّة، عدا العربيّة التي ذهبت إلى معنى (الوثوب).» كذا قال الباحث! وما يعنينا هنا هو وزن هذا السطر، الذي يبدو كذلك كما لو كان رجزيًّا، هكذا: «أ ن ك. ك ل/ م و. ب ر. ح ي ء/- ي ش ب ت./ ع ل. ك س ء. أ ب ي»، مع ما يبدو من تغييرات محتملة في التفعيلات، من قبيل الزحافات المعروفة في العَروض العربيّ. إنها ملامح ذات دلالة عامّة على قِدَم أوزان الشِّعر العربي، ولاسيّما الرجز. وربما بدا هذا الاستقراء- إذا صحّ- مؤيِّدًا للنظريّة القائلة بِقِدَم وزن الرجز قياسًا إلى أوزان القصيد. أمّا قول الباحث إن العربية قد ذهبت إلى معنى (الوثوب) في (يثب)، ففيه إغفال للغة الحِمْيَرِيَّة، التي كانت فيها «يثوب» بمعنى يجلس. وما زالت المفردة مستعملة بذلك المعنى في لهجات جبال فَيْفاء، مثلًا. على أنها من «ثَوَبَ»، لا من «وَثَبَ». ولهذا يقال بلهجة فَيْفاء: «ثابَ، يثوب، ثِبْ»، أي قَعَد أو استراح. و«ثِب» هنا بمعنى «ثُبْ»، إلّا أنهم يُميلون الضمّ إلى الكسر في مثل هذا الموضع. وهي عربيّة لا غُبار عليها، بمعنى رجَع وعاد إلى موضعه ومجلسه ومثابته.(3)
وعليه، فإن للشِّعر هويَّة متجذِّرة لدى العرب والأُمم الساميَّة، ومَن يريد اليوم فرض قصيدة النثر- بوصفها «شِعرًا»- إنما يرتكب حماقة؛ إذ ينتحل فهمًا غربيًّا، غريبًا عن هذه الأمَّة، لماهيّة الشِّعر. فضلًا عن كونه فهمًا مستوعَبًا سَلَفًا في النثر الفنّي العربيّ منذ القِدَم، لكنه لا يكفي- بحسب الذوق العربيّ والتجربة العربيّة- لتكوين نصٍّ يمكن أن يندرج فيما يَعدّه العرب، والساميُّون عُمومًا، من الجنس الشِّعريّ. حتى إن العرب لم يُسمُّوا الرَّجَزَ نفسه شِعرًا، ولم يعدّوا الراجز شاعرًا، ولذا كان للرَّجَز أهله وللشِّعر أهله. وكانوا لدى التصنيف يصفون من برع في الشكلين بأنه: «راجزٌ شاعرٌ»، وإلّا فهو «راجز» فقط. وكذلك فعل الأندلسيُّون حينما ظهر الموشّح، أو شاع فيهم، فسمَّوه باسم يميِّزه عن الشِّعر، وسمَّوا مَن برع فيه: «وشّاحًا»، لا «قصّادًا» ولا «شاعرًا»، فإنْ كان بارعًا في الشكلين، كابن زيدون، مثلًا، فهو: «الشاعر الوشّاح». وكذا في فنّ الزَّجَل؛ فما سمَّوا الزجّال- كابن قزمان الأندلسي، إمام الزجّالين الأندلسيِّين- «شاعرًا»، أو «وشّاحًا»، على الرغم من أن الفارق بين الموشّح والزَّجَل إنما هو في اللغة، فالزَّجَل بالعاميّة والموشّح بالفصحى؛ أي كالفارق اليوم بين الشِّعر النبطيّ والفصيح، لكنهم أفردوا كلّ أسلوب بتسميةٍ خاصّة. وهم كذلك قد لا يسمُّون القصيدة قصيدةً إلّا إن جاءت في بعض البحور دون سواها، وفي التركيب التامّ من تلك البحور دون المجزوء؛ لذلك كانوا يقولون: «أَقصَدَ الشاعرُ، وأَرْملَ، وأَهْزَجَ، وأَرْجَزَ»، من القصيد، والرَّمَل، والهَزَج، والرَّجَزِ. وكأن مصطلح «القصيدة» لا يُطلق على أيّ نصٍّ منظومٍ، كيفما اتفق، وإنْ كان شِعريًّا، بل هناك لديهم شروط لذلك الاصطلاح، من حيث طول النصّ، ومن حيث نوع البحر. حتى لقد قال الأَخفش: «القصيد من الشِّعر هو: الطويل، والبسيط التامّ، والكامل التامّ، والمديد التامّ، والوافر التامّ، والرَّجَز التامّ، والخفيف التامّ، وهو كلّ ما تَغنَّى به الرُّكبان، قال: ولم نسمعهم يَتغنَّون بالخفيف.»(4) وهكذا كانوا، على هذا النحو الدلاليّ الدقيق في استخدام الكلمات وفِقْه المصطلحات، لا كما باتت المصطلحات النقديَّة في عصرنا العبثي هذا «سَبَهْلَلَةً»، ينتحلها من شاء، وينحلها من أحب، وَفق نهج رَغبويٍّ عاطفي، لا علميّ ولا نوعيّ.
ومثلما عَدَّ (عبدالقاهر الجرجاني) «النَّظْم» في الكلام هو توخي معاني النحو، فإن الشِّعر ينبغي أن يكون توخِّيَ معاني العَروض، بالمعنى الفنِّي الأعمق والأشمل للطاقة الموسيقيَّة اللغويَّة، لا بمعنى شكلانيَّة الوزن والتقفية، فقط. وكما أن المفردات لا تكتسب دلالتها مفردةً، بل تكتسب ذلك بالنَّظْم والتركيب، كذلك لا تكتسب الجُمَل المنثورة ماهية الشِّعر إلّا بالبناء الموسيقيِّ المُحْكَم، وإلّا ظلَّت نثرًا، مهما كانت الشِّعريّة فيها ظاهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من حوار أجراه معه: علي سعيد، (صحيفة «الرياض»، العدد 14997، الخميس 23 رجب 1430هـ= 16 يوليو2009م).
(2) انظر: صحيفة «الحياة»، العدد11556، السبت 8 أكتوبر 1994م= 3 جمادى الأولى 1415هـ، ص20.
(3) يُنظر: ابن منظور، لسان العرب، (ثوب). وقد فصّلتُ القول في هذا في دراستي بعنوان«لهجات فَيْفاء: جذور العربيَّة»، المنشورة في (مجلَّة «الدراسات اللغويَّة»، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، مجلد 14، العدد1، المحرَّم- ربيع الأوَّل 1433هـ= ديسمبر- فبراير 2012م، ص ص265- 286). ويمكن تحميل نسخة منها أو قراءتها على رابط (الإرشيف) العالمي:
http://archive.org/details/FaifaDialects
وهي في الأصل محاضرة أقيمت في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، مساء الثلاثاء 25 محرَّم 1433هـ= 20 ديسمبر 2011م. لمشاهدة تسجيلها المرئي تابع هذا الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=Pvp5eKcPQpc&list=UL
(4) ابن منظور، (قصد).
6/ 12/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتيّة، الاثنين 3 ديسمبر 2012 م، ص23.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/29ACE1FA-9200-4569-A1AB-C2C2EFCFAC5F/P23.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=397158&date=03122012
|