أ.د/ عبدالله الفَيفي، كرسي الأدب السعودي:5.لقاءات:إضبارة أ.د/ عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net



كرسي الأدب السعودي: لماذا الآن؟

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي
(ورقة أُلقيت بمناسبة تدشين كرسي الأدب السعودي، برعاية معالي وزير الثقافة الإعلام د. عبدالعزيز خوجة، ومعالي مدير جامعة الملك سعود أ.د. بدران العمر، صباح الثلاثاء 27 المحرَّم 1434هـ= 11 ديسمبر 2012م، كلية الآداب، جامعة الملك سعود، الرياض)


-1-
حينما هاتفني سعادةُ عميد كلية الآداب بجامعة الملك سعود ببشارة هذه الاحتفاليّة، ودعاني للتحدّث فيها، تساءلت ببراءة: أيُّ كرسيٍّ هذا؟ أهو خشبيّ؟ أم بلاستيكيّ؟ أم دوّار؟ فأعلمني أنه "كرسيٌّ حديديّ"!
كان السؤال مزاحيًّا؛ لكثرة كراسي البحث اليوم في الجامعات السعوديّة، وضرورة إعادة التقييم، بعد نحو عشر سنوات على هذا المخاض، وتناسل الكراسي بصورة لافتة، لإعادة النظر في أداء بعضها، من أجل التفريق بين ما ينتمي منها إلى البحث والعلم والأكاديمية، وما تغلب عليه الطبيعة الإعلاميّة، والدعائيّة، مع ما يستهلكه من مالٍ بلا مردود، وجهودٍ بلا منتوج، لا للعلم ولا للوطن.
أمّا كرسيّ الأدب السعودي "الحديدي"، فأملٌ مستقبليٌّ، وحُلمٌ قديمٌ، ومادةٌ خِصبة، وأرضٌ عطشى، إنْ أُحسن النهوض به ليتطابق اسمه مع مسمّاه. وهذا يجيب مبدئيًّا عن السؤال: لماذا الآن؟ لقد بلغ الأدب في المملكة أشدَّه، وما بعد الأشدّ. وامتدّ تاريخه زمنًا، وإنْ دُوْنَ تاريخ أدبي ملائم، يتصف بالإنصاف والشموليّة والعلمية والتجرّد. وهو اليوم أدب يشي بآفاق مستقبليّة أكثر نضجاً وتخلّصاً من عثرات الماضي، بين تيارات تقليديّة، وتجارب جديدة، كانت تتلمّس مسالكها إلى التجديد، دون تأسيسٍ رصينٍ، وثالثة لم يكن يعنيها من الأمر- فيما يبدو- أكثر من أضواء الثورة والشهرة الخاطفة. حتى بتنا على مشارف انصهار التيارات الثلاثة في تيارٍ رابع جديد، يمكن أن نطلق عليه (الحداثة الأصيلة، أو الأصالة الحداثيّة)، تقوده شبيبةٌ، جمعتْ إلى المواهب تعليمًا أغنَى، وفكراً أرحب، قمينَين بأن يبعثا لديها وعيًا بتراثها، وإدراكًا أعلى بمسؤوليّاتها نحو التحديث.
-2-
لن أخوض في المصطلح كثيرًا.
فعلى الرغم من أن مفاتيح المصطلحات هي مفاتيح المفاهيم، ومن ثم فإن معرفة ماذا نعني بالأدب السعودي، سينبني عليه ما تستدعيه تلك المعرفةُ على صعيد الأهداف والتخطيط والعمل؛ على الرغم من ذلك كله، فقد عُلِّمنا قديمًا أن لا مشاحة في الاصطلاح، ما لم يصبح المصطلح قيدًا على الفِكر والمنهج. فمن نافل القول أن ليست ثمّة خصائص فنّيّة لهذا الأدب المسمّى "السعودي"، بشعره ونثره، يختلف بها عن الشِّعر العربي، في المغرب، أو مصر أو العراق. ناهيك عن أدب الجزيرة العربيّة، بصفة عامّة. وإنما هذا المصطلح تركيب نعتيّ يشير إلى المكان. نعم، الأدب في المملكة قد يحمل ملامح المكان والبيئة، اللذين ربما اختلفا بعض الاختلاف عن قُطْرٍ عربي آخر؛ غير أنهما لا يشكِّلان في النهاية هويَّةً أدبيّة لها مائزاتها المحدَّدة. ثم إن هذا التحديد القُطري السياسي ينطوي على نزوعٍ إلى فرز المنجز: هذا سعوديّ وهذا غير سعوديّ. ومع مجازفة هذا التصوّر علميًّا، فإنه قمين بأن يُقصي أدبًا كُتب "في السعوديَّة"، أو صار من إرثها، وثرائها، وإن لم يكن منجزوه سعوديين، أو لم يتعلق موضوعه بما يمكن أن يُصنَّف على أنه سعودي؟ فأين سيذهب؟
إن ورطة المصطلح جديرة، إذن، بالحذر الشديد عند مزاولة العمل البحثي. لا بُدّ، في رأيي، من أن لا يأخذنا المصطلح إلى الانغلاق الزماني أو المكاني، فكفانا تغنّـيًا بالخصوصيّات العقيمة، ورسمَ الحدود الوهميّة حول أنفسنا. الأدب لا جنسيّة له، والجمال لا يمكن أن تُنصب حوله نقاطُ الحدود والتفتيش.
-3-
بحسب المعلن عن أهداف كرسي الأدب السعودي: تبرز معالم مثاليّة، تَعِد بـ"تهيئة بيئة علمية، وبحثية، واستشارية، لدراسات الأدب في المملكة العربية السعودية، وتعزيز التواصل، والشراكة، بين الجامعة والمؤسسات العلمية والأكاديمية والثقافية العامة والخاصة." كما يأتي في جملة الأهداف التفصيليّة:
1- تعزيز الانتماء الوطني من خلال دراسات الأدب السعودي.
2- ربط الأدب العربي السعودي بالهوية العربية الإسلامية للأُمَّة.
3- تهيئة البيئة العلمية والبحثية المناسبة للباحثين في الأدب السعودي.
4- رصد جميع الدراسات والأبحاث التي تُعنى بالأدب السعودي محليًا وإقليميًا وعالميًا.
5 - إثراء المكانة العلمية والبحثية للأدب السعودي، وتشجيع العلماء والباحثين السعوديين وغيرهم على الإسهام في أبحاثه ودراساته.
6- بناء جسور التواصل بين كرسي الأدب السعودي والمؤسسات الأكاديمية والثقافية داخليًا وخارجيًا.
7- الإسهام في خدمة المجتمع بعقد اللقاءات، والمحاضرات، وحلقات النقاش، والندوات، والمؤتمرات المتخصّصة، وتقديم استشاراتٍ ولقاءاتٍ علميةٍ في مجال الأدب السعودي.
في هذه الأهداف تتسابق مفردات (التعزيز، والربط، والتهيئة، والرصد، والإثراء، والبناء، والإسهام). وأعتقد أن الاتكاء على "التعزيز" و"الربط" هو من قبيل تحصيل الحاصل، من جهة، ومن جهة أخرى فيه افتراض قيود، لا يمكن أن يتقبّلها الأدب أصلًا، ولا حتى البحث النقدي الجادّ. ولو جُعل "التشجيع" على تلك القِيَم هو منتهى الغاية في هذا المضمار، لكان ذلك أنسب، في رأيي؛ كيلا يتحول كرسي الأدب السعودي إلى ضربٍ جديدٍ من الروابط الأيديولوجيّـة، أو الواقعيّات الاجتماعيّـة، التي فشلت على المستويات كافّة، أدبيًّا وإنسانيًّا! من جانب آخر، وبما أن الكرسيَّ للبحث في الأدب في المملكة، فإن كل الجامعات السعوديّة ينبغي أن تكون شريكة في دعمه، وكذا كل الأندية الأدبية في المملكة، والمؤسسات الثقافيّة كذلك، لا جامعة الملك سعود ونادي الرياض الأدبي فقط.
-4-
ويبدو من الطبيعي- وفق سياقنا المحتفي في السنوات الأخيرة بالتراث العامّي، على نحو إيجابي أو سلبي- أن سيُطرح على هذا الكرسي السؤال عن الأدب العامّي، وأين موقعه من الكرسي؟
وأرى- بالرغم من تحفظي المعروف على العاميّة، نشرًا، وبثًّا، وترسيخًا- أن يكون من ضمن اهتمامات كرسي الأدب السعودي دراسة الفنون الشعبيّة، للإفادة منها لغويًّا وأدبيًّا، بما يعود على لغتنا الفصحى وآدابها بالثراء المعرفي والفنّي. ولاسيما أنه كرسيُّ بحثٍ، وليس كرسيًّا إعلاميًّا، أو منبرًا تسويقيًّا لألوان معيَّنة من الأدب. ذلك أن من وظيفة الأدب بعامة الارتفاع بالأذواق، والارتقاء باللغة، لا مجاراة السائد، واستمراء الموروث الجماهيري على علّاته. كما أن ارتباط هذا الكرسي العلمي بالجامعة يحتم عليه كذلك رسالةً علميّةً، وحضاريّةً، تسعى إلى تجسير الهُوَّة بين العاميّة والفصحى، لتأخذ بلغة الأدب وبمضامينه إلى الأمام لا إلى الخلف، وإلى الأرقى والأبقى، حضاريًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا، لا إلى المحلِّي واللهجي والقَبَلي، مهما كان إغواؤه لأوساط الناس. تلك وظيفة الأدب، كما أفهمها، وهذه رسالة الجامعة، كما يجب.
-5-
كل ذلك على الصعيد النظري ممكن، لكنه على الصعيد التطبيقي لا يتأتى إلّا بالتخطيط الاستراتيجي الشامل. فهو لا يتحقّق بالأماني والتطلّعات. ولعلّ كرسي الأدب السعوديّ- "الحديدي"- جدير بأن يستعين في هذا ببعض بيوت الخبرة المحليّة أو العربيّة أو العالمية؛ لدراسة الشأن التمويلي والتخطيطي واستشراف المستقبل، لتحويل الأحلام إلى برامج، والبرامج إلى مخرجات، تتوازى مع مكانة أدبنا ووطننا الغالي.
ختامًا، سأردِّد مع (ابن حمديس الأندلسي) تعويذته الشِّعريّة، مع بعض التعديل:

وخفتُ على الكرسيِّ عَـيْـنًا تُصيبُـهُ ** فصَيَّرْتُ تعويذي له آيةَ الكرسي!





شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©