-1-
في الاحتفاليّة المهمّة بمشروع (مؤسَّسة الفكر العربي)، تحت عنوان «لننهض بلغتنا»، المقامة في (دُبيّ)، مؤخَّرًا، جاء في كلمة الأمير خالد الفيصل، رئيس المؤسَّسة: «اللغة هي الهوية... راجين من الله تعالى ألّا تكون [اللغة العربيّة] من اللغات، أو الهويّات، المحكوم عليها بالانقراض... وإذا كنّا في الماضي نُحمّل الاستعمار ومشروعاته وزر إهمال هذه اللغة ومحاربتها، وكنا نتصدّى للأمر بكيفيات شتى، فإننا اليوم بصدد الخطر الأكبر على هذه اللغة في هذا الزمان، ألا وهو هيمنة الغرب على كل شيء... ومن أخطر مظاهر هذه الهيمنة هيمنة اللغة الإنكليزية على ألسنتنا ومنطوقنا اللغوي اليومي العام... بتنا اليوم نترحَّم على العاميّة؛ فعلى الأقل هي تنتمي إلى العربيّة.» معبرًا في ختام كلمته عن شكره لسموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي يولي اللغة العربيّة والثقافة العربيّة كلّ اهتمام مسؤول ورعاية حريصة مخلصة، تجلَّت في المؤسّسات والمشروعات الخاصة التي أسّسها ورعاها لتخدم لغة الضاد وتعليمها.
كما جاء في كلمة (الشيخة مي آل خليفة): إن «مهمة وزراء ثقافتنا في الحفاظ على اللغة العربية.. لا تقل أهمية عن وزراء الدفاع في حفظ أمن البلدان»!
وقد وَرَدَ في توصيات المشروع إلى المسؤولين العرب في شتى مواقع القرار، وإلى المعنيين بشأن اللغة العربية، وإلى عموم الرأي العام:
أولًا: السعي الجاد لاتخاذ سياسات لغوية مُلزِمة، مبنية على تخطيط لغوي شامل، يهدف إلى إعلاء شأن اللغة العربية في التداول والتعليم، وإعادة الاعتبار إليها عن طريق القيام بمبادرات تشريعيّة وثقافيّة وتربويّة واجتماعيّة وإعلاميّة، ترعاها الحكومات العربيّة توجيهًا وتمويلًا.
ثانيًا: يُعَدّ تعليم اللغة العربيّة للأجانب في مختلف البلاد واجبًا وطنيًّا... مع تهيئة الوسائل والأدوات الممكنة من برامج حديثة لتعليم اللغة العربيّة وتقنيات متطوِّرة على غرار ما هو معمول به في تجارب بعض الدول التي تَعُدُّ لغتها رمزًا لـ«شرفها القومي».
ثالثًا: إلزام المدارس الأجنبية في البلدان العربية بتخصيص حصص كافية لتدريس اللغة العربيّة لطلبتها.
رابعًا: دعوة جامعة الدول العربيّة لتأسيس كيان دوليّ للغة العربيّة على غرار المنظمة الفرنكوفونيّة، تكون بمثابة مظلّة لتنسيق الجهود والأعمال بين مختلف المؤسّسات العاملة في مجال اللغة العربيّة الحكوميّة والأهلية. على أن تتوافر لهذا الكيان رؤية العمل الواضحة والموارد اللازمة والصلاحيّات الضروريّة، لوضع الخطط والبرامج الكفيلة بالنهوض بلغتنا العربيّة.
خامسًا: الدعوة لإنشاء هيئة تخطيطٍ لغويٍّ عُليا، تنبثق من اتحاد المجامع اللغويّة والعلميّة، لتتولَّى شؤون التخطيط والتنسيق في الأقطار العربيّة، والرقابة والإشراف على تنفيذ قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربيّة، وعلى سياسة تعليم اللغات واستخدامها.
كما أكّدت التوصياتُ العملَ على إصدار ميثاق شرفٍ إعلاميٍّ عربيٍّ يوجب استخدام اللغة العربيّة الفصيحة الميسَّرة في وسائل الإعلام العامّة والخاصّة، ويهدف إلى الحدّ من ظاهرة استشراء التعبير بالعامِّيَّة المحليّة. إضافة إلى ما أوصى به المجتمعون من اعتماد مبدأ التعريب الشامل، من منطلق المنظور السياديّ، إطارًا جامعيًّا يتمثَّل في وحدة اللغة والثقافة والانتماء، وانتهاج هذا التعريب في المقرّرات الدراسيّة، (بما لا ينتقص من مستوى التحصيل في اللغات الأجنبيّة!).
إلى جانب ما تضمّنه إعلان المشروع عن دعوة وزارات الثقافة العربيّة المنظِّمة لمهرجانات الفنون على اختلافها إلى تخصيص جائزة لأفضل الأعمال الفنِّيَّة التي تُعلي من شأن اللغة العربيّة استخدامًا في سيناريوهات الأفلام وحوارات المسرحيّات والمسلسلات التلفزيونيّة ونصوص الأغاني. إضافة إلى ما تضمّنته التوصيات من تأكيد العمل على مواكبة التطوّر السريع في عالم النشر الرقمي وحشد الموارد اللازمة للاستثمار في هذا المجال الجديد.
-2-
في مثل هذه المناسبة، لا نملك- نحن الأقلّيّة القلقة على شأن اللغة العربّية- إلّا التصفيق، أو ترديد اسطوانتنا العتيقة: «جزاكم الله خيرًا، وهذه لغة القرآن، ووو إلخ!»، ثم قد نُلقي قصيدة نبطيَّة بالمناسبة، أو نقول:
Ok! Great ideas, Arabs!
أمّا إن أردنا أن نكون أكثر جديَّة، وعمليَّة، وسعيًا لوضع المبضع على الأورام والجروح، فسنقول:
1- إن الاحتفاليّات لا تُجدي (فعليًّا) في شأن اللغة العربيّة، وإن كان لها دورها الإعلامي والتوعوي المقدَّر.
2- بداية العلاج يجب أن تنطلق من خلال:
أ. التعليم. والتعليم- مع فشله المزمن في تعليم اللغة العربية على نحوٍ يقرب من المعقول- غارق اليوم في اللغات الأجنبيّة. ولقد تفتَّقتْ تطلّعاتُه الرياديةُ المشكورةُ مؤخَّرًا عن خطوةٍ- لا يشكّ أحدٌ، يعرف سنن اللغات، في خطورتها- تتمثَّل في فرض اللغة الإنجليزيّة في مناهج الأطفال من مراحل التعليم المبكرة؛ وذلك لحكمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى! يأتي في أبهى نتائجها: أن تقضي الإنجليزيّة على ما بقي من العربيَّة، أو كان يمكن أن يتأسَّس لدى الطفل من لغته الفصحى، الممحوقة أصلًا. ذلك أن تعليم لغة أجنبيّة في سِنٍّ مبكِّرةٍ يعني ببساطة: رفع اللغة الوطنيّة نسبيًّا إلى رفّ الذاكرة، وإنْ كانت سائدة الاستعمال في الحياة اليوميَّة وفي التعليم. فكيف وهي بعكس ذلك، على طول الخط!؟!
ب. الإعلام. والإعلام غارق اليوم إلى أذنية في العامِّيَّة! بل بعضه مؤسَّس لخدمة العامِّيَّة، ونشرها، وترسيخها، وتجييش البشر والوسائل لغرس عشقها في الناشئة، وتربيتهم على حفظها، وقرضها، واعتقادها هويَّةً اجتماعيَّةً وثقافيَّةً ووطنيَّةً، لا يُعلَى عليها، اللهم إلّا في الصلاة!
فهل ستُصلح مؤسسة الفكر ما أفسد الدهر؟! نتمنى ذلك!
-3-
وإلى جانب الكلمات الجميلة السالفة، والمشاعر الطيّبة، والمشاريع الغيورة، التي حملتها كلمات المشاركين في تلك المناسبة العروبيَّة المهمَّة، لعل (الشاعر عبد المعطي حجازي) قد قارب القضيَّة على نحوٍ كاشفٍ، وصادمٍ في صدقه؛ لا يُلقي بمشكلة العرب على غير العرب، مشيرًا إلى داءٍ دويٍّ، هو اللهجات العامِّيَّة، التي طَمَّ طوفانها في العقود الأخيرة، أدبًا وإعلامًا. وهي بحقٍّ سرطانُ العربيَّة الأوّل، والأقدم، والوطني، والمستمر، والمتفاقم، والمخدوم الآن بالإعلام لأول مرّة في التاريخ. وذلك حينما أشار حجازي إلى أن المجتمعات العربيّة تعيش بلغتين، وبعضها يعيش بأكثر، ممّا جعلها مجتمعات منقسمة على أنفسها لغويًّا؛ لأن مجتمعاتها تتخاطب بلغةٍ، وتفكِّر بلغةٍ، وتتعلَّم بلغةٍ، أو بلغات أخرى.(1)
تلك مرابط الفَرَس، إذن، لمَن أراد أن يربط فَرَسَه، أو يطلقه بلا رَسَن!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر عن وقائع الاحتفال بمشروع إعلان «لننهض بلغتنا»: صحيفة «الرياض»، الاثنين 12 محرَّم 1434ه= 26 نوفمبر 2012م، ع16226، على رابط الجريدة:
http://www.alriyadh.com/2012/11/26/article787336.html
26/ 12/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|