ــ1ــ
من معاني كلمة «عَرَب»: كثرة الماء وصفاؤه. فهل ما زال العَرَب كذلك؟ وهل ما زالت لغتهم كذلك؟ ولسنا نقصد بالصفاء دعوى النقاء اللغوي الخالص، فذلك ضربٌ من الوهم، كدعوى النقاء العرقي الخالص. وكثيرًا ما نسمع تحت هذا الوهم كذلك قول بعض الغُيُر على العربيَّة: لم يَرِد هذا عن العرب. أو ليس في العربيَّة هذا التعبير. وطبيعيّ أن لا يَرِد عن العرب كثير من التعبيرات الحديثة، وأن لا نجد في العربيّة كلّ استعمال معاصر. فنحن لا نجد في كلام العرب كثيرًا من الاستعمالات الاجتماعيّة الحضارية اليوم، التي حاكينا فيها أسلوب التخاطب في مجتمعات أخرى، ولاسيما المجتمعات الغربيّة، فهل نَعُدّ ذلك بدعةً، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار؟! إننا لو فعلنا ذلك لحكمنا على لغتنا بالإعدام، وعلى عبقريتها التطوّريّة بالتحجُّر. وكما أن ثمَّة أصوليَّة دينيّة متطرّفة، فثمَّة أصوليّات لغويّة متطرّفة كذلك، جاهلة بجهالة ما تفعل باللغة جهلَ الأصوليَّة الأولى بجهالة ما تفعل بالدِّين. وإنما يصحّ القول، في كلّ حال، بضرورة احتذاء مقاييس اللغة العربيَّة، وسننها الرئيسة، وأعرافها البلاغيَّة العامّة، في سَكّ الصِّيَغ اللغويّة الجديدة، والتعبيرات البلاغيَّة المستحدثة، ثم تُطلق من هناك اللغة من عِقالها القديم المتبلِّد.
وما أشدّ ما لُقِّنا في أصوليّاتنا اللغويَّة، تحت شِعار «قُل ولا تقل»، محرَّمات تعبيريّة شتّى، نجدها، حينما نشبّ عن الطوق، بلا معنى، سوى التشدّد، وهو تشدّد فارغ أحيانًا من الحسّ اللغويّ الأصيل، أو المَلَكَة التبصّريّة بما وراء التعبير من دلالاتٍ بلاغيّة متوخّاه، لا تؤدّيها الصيغ الجامدة الموصَى بها. وأضرب على ذلك نموذجين، لا غير:
لُقِّنا أن من الخطأ التعبيري المعاصر أن تقول مثلًا: «أنا، كمواطن، أتطلَّع إلى مكافحة الفساد». قائلين لك: كيف تقول «أنا كمواطن»، ألستَ مواطنًا؟! قل: «أنا بصفتي مواطنًا...»، أو «أنا مواطنًا...»، أو نحو هذا. لكننا حينما نتأمَّل الفرق بين التعبيرين نلحظ أن هناك غايةَ تشبيهٍ فعلًا في قولنا: «أنا كمواطن»، تَسقط بقولنا: «أنا بصفتي مواطنًا». لأن المتحدِّث لا يهدف إلى الإخبار بأنه مواطن، بطبيعة الحال، أو أن تلك صفته، وإلَّا كان كلامه العيَّ عينه، أو قل اللَّغو. وإنما يقصد إلى القول: إن هناك (نموذجًا أعلى لمن يتّصف بصفة المواطنة)، وهو، من حيث كونه (يحاكي ذلك النموذج ويسعى إلى التشبُّه به)، يفعل كذا وكذا. وفي هذا، إلى ذاك المقصد من التعبير، تهذيبٌ تعبيريٌّ، وتواضعٌ في النظرة إلى الذات. وكلّ تلك الظِّلال الدلاليَّة والبلاغيَّة تتبخَّر بتحذلق المتحذلقين القامعين للألسنة على القول: «أنا بصفتي...». صحيح أن هذا التعبير المستنكر يحاكي بلاغيَّة تعبيريَّة أجنبيَّة، تأتي فيها أداة الربط (as) في مثل هذا السياق، ولكن ماذا في ذلك؟! هذه بلاغيَّات تعبيريَّة جديدة، مضافة إلى رصيد البلاغيَّات العربيَّة الموروثة. وكما نُعرِّب المفردات، أو نستقي المصطلحات، فإن الاحتكاك بثقافات أخرى، وطرائق تعبير مغايرة، وبلاغات لغويَّة متعدِّدة، لن ينفكّ بنا عن مثل هذه الحالات التي نجدنا مضطرِّين إليها للتعبير عن أفكارنا المعاصرة، ووفق سياقات قوليَّة حديثة؛ لا يُغنينا عنها تكلُّف تركيب عقول الأسلاف في رؤوسنا، لكيلا نسلك واديًا لم يسلكوه. وفي قبول ذلك إثراء للعربيَّة وطرائق تعبيرها، وبضِدِّه محاولة- وإن غير مقصودة- لإعقام اللغة، أو إفقارها، باعتقال طاقاتها الخلّاقة في قوالب سَلَفيَّة جامدة.
ومن ذلك أيضًا تحريمهم استعمال عبارة «وبالتالي». وأنت ترى أحدهم يكابد الأمرَّين، الفصحى والعاميّة، لكي يتحاشى الوقوع في هذا المحرَّم. مع أنه لو تأمَّلته تعبير وجيه. ذلك أنِّي حينما أقول: «حدث كذا، وبالتالي وقع كذا وكذا»، فإني أُخبر عما تلا الحَدَث الأوَّل من نتيجةٍ، وما تبعه من تبعات. وتقدير الكلام، وبـ«الحال التالي»، أو «وبالوضع التالي وَقَعَ كيت وكيت». فهاهنا حذفٌ من الجملة، يُعوِّل على فطنة المتلقِّي. والمتلقِّي العربي الطبيعي- غير المتنطِّع اللغوي- يُدرك المعنى، ويستوعبه، ويستسيغه، أكثر من عباراتنا الأخرى المخترعة. وإذا كان التعبير الأوَّل واردَ تعبيرٍ أجنبيٍّ، فإن هذا التعبير الأخير يبدو واردَ تعبيرٍ عامِّي. فنحن نسمع في العامِّية مثلًا قولهم: «وتاليها معاك»، أو «والتالي معاك»، ونحو ذلك. وما كلّ عامِّيٍّ بلا أصلٍ عربيٍّ فصيح، أو بلا حس لغويٍّ سليم. بل ما كلّ عامِّي، غير مذكور في المدوَّن من كلام العرب، نستطيع القطع بأنه لم يستعمله العرب قديمًا، هكذا ضربة لازب.
ــ2ــ
على أن هذا لا ينفي الضعف اللغوي السائد في عصرنا. وأن هذا السقام قد شاع حتى على ألسنة الأدباء الكبار، بل الشعراء المشار إليهم بالبنان. قد لا تفضح ذلك الكتابة، لكنه يفضحه اللسان. ونكتفي بمثالٍ واحد، عن شاعرٍ كبير، هو نزار قبّاني. نزار شاعرٌ كبير، ما في ذلك شكّ، مهما دار حوله الخلاف، والخلاف لا يدور إلَّا حول الكِبار. لكن الشِّعر شيء والعربيَّة الفصحى شيء آخر. الشِّعر يمكن أن يكون بأيَّة لغةٍ إنسانيَّة، والعربيَّة الفصحى لا يمكن أن تكون إلّا بالعربيَّة الفصحى. ألا تراه كيف يقول في قصيدته الرائعة بعنوان «غرناطة»، مثلًا:
عينانِ سوداوانِ في حَجَرَيهما * * تتوالد الأبعادُ من أبعادِ(1)
«في حَجَريهما»، بفتح الجيم؟ ربما! وإنْ كان نابيًا أن تكون عينا جميلةٍ حَجَرين. أم هو يعني في «حِجْريهما»، أو «حَجْريهما»، أي في محجريهما؟ أكاد أجزم أنه يعني هذا، وإنما خانه النطق بذاك، فجعل العينين حَجَرين. ومَحْجِرُ العَين: ما دار بها وبدا من جميع العَين، وقيل: هو ما يظهر من نِقاب المرأَة، وقيل: هو ما دار بالعَين من العَظْم الذي في أَسفل الجفن. قال الأَخطل:
ويُصبِحُ كالخُفَّاشِ يَدْلُكُ عَيْنَهُ، * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ لَئيمٍ ومِنْ حَجْرِ!
فسّره ابن الأَعرابي فقال: أَراد محجر العين.(2) رُبَّ قائل يقول: إن التعبير بـ«حِجْريهما» يُوقع تعبير نزار في العاديَّة، وهو يعني ما يقول، «حَجَريهما» يعني: «حَجَريهما»! وهذا تخريج لطيف، وإن خالف مدرسة نزار الشِّعريَّة السمحة، وغير المتحذلقة كلَّ هذا التحذلق (الأبيتمَّامي). غير أن الشاعر، إنْ سُلِّم بذلك، يكون قد حوَّل صاحبته إلى تمثالٍ حَجَري! ويكون بهذا كمَن أراد أن يكحلها فأعماها، بل حَجَّرها!
مهما يكن من «حجر»، فمِثل هذا الشاهد كثير لدى شعراء العرب المحدثين. والمقصود هنا أن بلبلة الألسنة، ولوثاتها بالعاميَّات أو بالعجمة، أمر لا ريب فيه ولا جدال. غير أن هذا لا يسوِّغ في المقابل عسف الشُّرَط اللغويَّة، التي تُحجِّر، بدورها، اللغة تحجيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) استمع إليه على هذا الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=WU2cnmm-kiU&NR=1
(2) انظر: ابن منظور، لسان العرب المحيط، (حجر).
(*) حول مقالي بعنوان «العربيَّة في مَهبِّ العَرَب!»، المنشور بصحيفة «الرأي» الكويتية، الثلاثاء 8 يناير 2013، ص24:
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/E200DAF4-5151-46BC-B3FA-E965AA16C646/P24.pdf
نشر (الأستاذ الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان) في صحيفة «الجزيرة» السعوديَّة، الخميس 24 يناير 2013، ص24:
http://www.al-jazirah.com/2013/20130124/cu11.htm
مقالًا تفاعليًّا، يليق بنُبله، ويَفضُل عمّا أستأهل. وأنا أُدرك أنه، وهو العالِم المتخصِّص في علم اللغة نحوًا وصرفًا، أقرب منّي «حماسة» للعربيَّة، وأحرى بـ«انفطار الكبد والحسرة» على حال العرب ولغتهم. غير أن الأمر، كما نتّفق، يعدو الحماسة العاطفيَّة أو التباكي المجّاني إلى حقائق موضوعيَّة، إمّا أن نَقْدُرها حقَّ قدرها، على المستوى العلمي والعملي والحضاري، وإلّا فنحن إنما نُتبع لبننا المسكوب بسكب ماء المآقي. أمّا في ما يتعلَّق بتعليقه حول قولي: «تلهيج اللسان ومَرْمَدَته في مستنقعات العاميَّات»، قائلًا: «لم أجد الفعل (مرمد) في المعاجم القديمة، ولعله توليد صالح من الماء المُرمِد أي الآجن، فالفعل مرمد على هذا ملحق بالرباعي، ومعناه غمّس في الماء الآجن»، فأقول: ذاك ما عنيتُ، وأنا أشكره على إقرار صلاحيَّة هذا التوليد. وقد استعملته في مكان التعبير العامِّي: «مَرْمَطَ»، ولعلّه هو عينه، فُخِّمت داله لتصبح طاءً. وإنْ لم يكن، فهما بمعنى واحد. ولي مثل هذه القفزات التفصيحيَّة للعاميَّة؛ لما أراه من ضرورة ذلك. أُحيِّي، بدوري، عالِمنا الجليل الشمسان على مقاله الكريم والمفيد.
15/ 2/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12279، الثلاثاء 12 فبراير 2013، ص26.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/5DDE71DF-99CC-4C6F-8C5A-8598F3DFDEB7/P26.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=413803&date=12022013
|