ــ1ــ
لو اتخذنا نشيد «رولان»(1) الفرنسي نموذجًا على التراثي الشعبي من الأدب، فليس في هذا الضرب ما يعيبه لغةً بالضرورة لدى الفرنسيِّين، بل هو ثروة شعبيَّة فرنسيّة. وكذا أمثال هذا النموذج من الأدب الفرنسي. ومثل هذا يقال عمّا يستأهل نعت «الشعبي» من التراث العربي، ممَّا هو شعبيّ المضمون واللغة، كـ«ألف ليلة وليلة»، أو بعض الموشح، أو بعض الأراجيز والأزجال.
إن الشعبيّ من الموروث في أيّ أُمَّة من الأُمم هو نتاجٌ ذو قيمة، لا خلاف في ذلك. أمّا لغته، فقد تكون ذات شأنٍ آخر، وهي موطن الخلاف في الموقف منه. واللغة في ما يُنعت بـ«الشعبي» اليوم، من المأثور القولي العامِّي العربي، لا يمكن أن يَصدُق عليها نعت «الشعبي» بحالٍ من الأحوال. ذلك أن قصيدة نبطيَّة، بلهجة إحدى قبائل الجزيرة العربيّة، لا يفهمها، في حقيقة الأمر، كلّ الشعب، حتى في الجزيرة نفسها. يحدث هذا على الرغم من الخدمة الإعلاميَّة الضخمة التي سُخِّرت للشِّعر النبطي في العقود الأخيرة. ذلك الضخّ الإعلامي الذي لأجله صار معظم أبناء القبائل في السعوديَّة، جنوبًا وشمالًا، لا يكادون يقرضون إلّا نمطًا واحدًا من الشِّعر العامّي، هو الشِّعر النبطيّ. تركوا لسواد عينيه لهجاتهم، وتركوا شِعرهم الموروث، وتناسوا الغناء الخاصّ بكلّ قبيلةٍ من القبائل، حتى اندثر في ما اندثر من تراثٍ، أو هو يوشك على الاندثار. وإلّا، فأين شِعر جنوب السعوديَّة (غير النبطي، وليس لها شِعر نبطيّ قبل اليوم)؟ وأين شِعر شرق السعوديَّة (غير النبطي)؟ وأين شِعر غرب السعوديَّة (غير النبطي كذلك)؟ لا ريب في أن ذلك كلّه موجود، لكنه قد توارى في غضون «التأنبط» الجارف للقنوات، والأغاني، والصحف، والجو الإعلامي العامّي العام، مع حبّ تقليد السائد، والسير في ركاب ما يرسَّخ بالصوت والصورة، ليل نهار. ولو أن ذلك الإعلام كان في خدمة لغة العرب الجامعة، والتفت إلى اللغة الفصحى التفاتاته إلى العامِّيّة، لكانت النتيجة من انتشار الفصحى كذلك، أو أفضل. أجل، إن أبناء الجزيرة ما زالوا لا يفهمون جميعهم قصيدة نبطيَّة، رغم ذلك الخادم الإعلامي الأخطبوطيّ الهائل. ناهيك عن فهم تلك القصيدة من قِبَل المصريّ، أو الجزائري، أو المغربي، وهلم جرًّا. وهؤلاء وأولئك شعبٌ عربيٌّ واحدٌ، تاريخًا، وجغرافيا، ولغة، وثقافة، وحضارة، مزَّقتهم بالأمس الجهالات والقِفار، وتمزِّقهم اليوم السياسات والإعلام. ولمّا كان ذلك كذلك، فإن القصيدة العامِّيَّة، من حيث لغتها، لا تعدو تراثًا لهجيًّا. ليست بشعبيَّة، ولا يصدق عليها هذا الاسم. إلّا لو صح القول إن كل قبيلة عربية قد باتت شعبًا قائمًا بذاته.
وعلى هذا الأساس، فإن الموقف من المأثور الشعبي إنما هو من ذلك المأثور- أو قل المكرور- حينما يكرِّس لغةً مريضةً، أو يغرس قِيَمًا اجتماعيَّة مريضة. ولقد صار مصطلح «العاميّة»، المطلق على تلك اللغة المريضة، يُحيل إلى لغة سُوقيَّة، متحلِّلة تمامًا في بناها كافَّة عن لغة العرب. تلك اللغة التي أصبحنا مضطرِّين في المقابل إلى نعتها بـ«الفصحى»، تمييزًا لها عن العامِّيَّة. ولم يَعُد مصطلح، «العامِّيَّة» مقصودًا به ذلك الضرب من المفردات غير المألوفة في استعمالات العرب، كما كان عند بعض القدماء. لم يَعُد يعني ما عناه (ابن سنان الخفاجي)(2)، على سبيل الشاهد، في مثل تعليقه على كلمة «كيمياء»، في شِعر (أبي تمّام)، ذاهبًا إلى أنها: «من ألفاظ العوامّ المبتذلة، وليست من ألفاظ الخاصَّة، ولا يحسن نظم مثلها». وإنَّما يُقصد بـ«العامِّيَّة» اليوم لهجة محكيّة، منزاحة كثيرًا جدًّا عن لغة العرب، بكلّ ما في ذلك من غثٍ وبقايا سمين. أمّا ما عُدّ عامِّيًّا قديمًا- كذلك الذي تحدّث ابن سنان وأضرابه عنه- فإن الموقف القديم منه إنما كان يصدر غالبًا عن تصوُّرٍ قاصرٍ للغة، أوّلًا، ولوظيفة الشِّعر، ثانيًا، في تجديد معجم اللغة، وتطوير أساليب التعبير. كأنما كان هؤلاء يودّون، لو استطاعوا، تجميد اللغة في برّادات القديم. مع أن القديم نفسه لولا حركة الشِّعر لما عرفنا مفردات كـ«السجنجل» ونحوها ممّا أصبح من معرَّب العربيَّة، ومن معجمها الفصيح، ورافدًا مهمًّا، لولاه لضاقت اللغة، وانحبست، أو لضمُرت وماتت.
ــ 2 ــ
ومن المسلّم به في هذا السياق أن اللغة تتطور بتطوّر الحياة. ذلك أن تطوّر الحياة يستدعي معاني لا وجود لمفردات قديمة للتعبير عنها. وما اللغة إلّا نتاج التجربة الإنسانيَّة المتجدِّدة. ومن ثمَّة جاء المعرَّب، وجاء الدخيل، وجاء المولَّد في اللغة العربيَّة. والسعي إلى قَفل باب الاقتراض، وباب التوليد للتعبير عمّا يجدّ من معانٍ في حياة الناس، لا يعني تجميد الشِّعر فحسب، بل يعني تجميد اللغة نفسها وإماتتها أيضًا. وعلى غرار مثال (الخفاجي) السابق قولُ (الآمدي)(3) عن تعبير آخر لأبي تمَّام: «قوله «من صلف» يُريد به: الكبر والتيه؛ وهذا مذهب العامَّة في هذه اللفظة، فأمَّا العرب فإنّها لا تستعمله على هذا المعنى، وإنّما تقول: قد صَلِفَت المرأة عند بَعْلِها: إذ لم تَحْظَ عنده، وصَلِفَ الرجل كذاك إذا كانت زوجته تكرهه». وهذا الذي قاله الآمدي هو منتهى التشدُّد اللغوي، والتحجُّر الشِّعري، والغاية في التجني على الشِّعر والشعراء. بل إنه ليرقى إلى الجهل بالعربيَّة. فلقد جاء في كلام (الجوهري)(4) في هذه المادّة اللغوية، مثلًا:
«الصَلْفاءُ: الأرضُ الصُلبةُ؛ والمكانُ أَصْلَفُ. والصَليفُ: عُرْضُ العنقِ؛ وهما صَليفانِ من الجانبين. والصَليفانِ أيضًا: عودانِ يَعرِضان الغبيط تُشَدُّ بهما المحاملُ. والصَلَفُ: قلَّةُ نَزَلِ الطعامِ. يقال: إناءٌ صَلِفٌ، إذا كان قليل الأخد للماء. وسحابٌ صَلِفٌ: قليلُ الماء كثير الرعد. وفي المثل: رُبَّ صَلَفٍ تحت الراعدة. يُضرب للرجل يتوعَّد ثم لا يقوم به. وصَلِفَتِ المرأةُ تَصْلَفُ صَلَفًا، إذا لم تحظَ عند زوجها وأبغضها. يقال: امرأةً صَلِفَةٌ، من نسوةٍ صلائفٍ. قال القطامي يذكر امرأة:
لها روضةٌ في القلب لم تَرْعَ مثلها ** فَروكٌ ولا المُسْتَعْبِراتُ الصَلائفُ
وقال الشيباني: يقال للمرأة: أَصلَفَ الله رُفغَكِ، أي بَغَّضَكِ إلى زوجِكِ. ومن أمثالهم في التمسُّك بالدِّين: مَنْ يَبْغِ في الدِّين يَصْلَفْ، أي لا يحظى عند الناس ولا يُرْزَقُ منهم المَحَبّةَ. وزعم الخليلُ أنَّ الصَلَفَ مجاوزةُ قدر الظَرْفِ والادّعاءِ فوق ذلك تَكَبُّرًا. فهو رجل صَلِفٌ، وقد تَصَلَّفَ."
والقوم- من نقّادنا القدماء- إنما كانوا يحاكمون الشاعر بما قاله من قبله، من الجاهليِّين خاصَّة؛ فما لم يقولوه، لا ينبغي أن يقوله أحد من العالمين! وتلك طامَّة على الفكر، واللغة، والشِّعر، والنقد! معناها التوقف عن الشِّعر أصلًا! ذلك أن القدماء- ربما- لم يستعملوا الكلمة استعمال أبي تمام، كما لم يستعملوا أشياء كثيرة استعمال لاحقيهم من البَشَر؛ فإذا بعض أولئك البلاغيِّين يتصدّون بكلّ حماسة لنهي الشاعر عمّا اقترف من المنكر؛ لأنه استعمل كلمة في غير ما وُضعت له على ألسنة أجدداده. وهل الشِّعر كلّه إلّا استعمال الكلمات في غير ما وُضعت له؟! ومع ذلك فإنه يُنسب إلى (علي بن أبي طالب) قوله:
أَنا راضٍ بِالعُسرِ وَاليَسارِ فَما ** تدخلُني ذِلَة وَلا صَلفُ
وقال جرير:
إِنّي أُواصِلُ مَن أَرَدتُ وِصالَهُ ** بِحِبالِ لا صَلِفٍ وَلا لَوّامِ
وقال السيد الحميري:
إنْ أنتَ لم تلقَ مِن تَيمٍ أخا صَلفٍ ** ومِن عَدِيٍّ لحقِّ اللهِ جَحّادا
وقال:
لا تستعن بخبيثِ الرأيِ ذي صَلَفٍ ** جمِّ العيوبِ عظيمِ الكِبرِ جَبّارِ
إلى غير هذه من الشواهد.
وقصارى القول إن هذا المستوى ليس ما نعنيه، ولا ما نعيبه. بل هو، في الشِّعر خاصَّة، من نواميس الشِّعر، وضروراته لأداء وظيفته اللغويَّة الحيويَّة، ما جاء وَفْقَ مقاييس البناء اللغوي السليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نشيد رولان (La Chanson de Roland) أغنية ملحميَّة. أمّا رولان، فأشهر الفُرسان الأسطوريِّين في فرنسا خلال القرون الوسطى. كان من فُرسان الملك شارلمان (742- 814). مؤلِّف النشيد غير معروف، عاش في ق12م، ساردًا قِصَّة رولان، التي لعلّها حدثت 778م. وكان دور رولان في الملحمة حماية جيش الملك من المسلمين الأندلسيين أثناء عبور الجيش سلسلة جبال البرانس، بين فرنسا وإسبانيا. غير أنه وجيشه واجهوا الموت في موقعة مع المسلمين.
(2) (1982)، سِـرّ الفصاحة، (بيروت: دار الكتب العلميّة)، 76.
(3) صحاح اللغة، (صلف).
(4) (1990)، الموازنة بين شِعر أبي تمّام والبحتري، تح. عبدالله حمد المحارب (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 3: 392.
22/ 2/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12287، الأربعاء 20 فبراير 2013، ص30.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/048E8616-85C8-4F76-9B2F-7B33E6BFC52B/P30.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=415730&date=20022013
|