إن الهُوَّة بين اللغة العربيّة الفصحى والعاميَّات بالغة التأثير، لا في اللسان العربي فحسب ولكن في العقل العربي والفكر العربي والإبداع العربي أيضًا. ذلك لأن الذهن يحتاج لدينا دائمًا إلى إجراء عمليِّتين لدى استعمال اللغة، الأولى معالجة بنية المعنى- معبَّرًا عنها بلغته الطبيعيَّة (العامِّيَّة)- ومن ثَمَّ الانتقال إلى المعالجة الأخرى، لنقل تلك البنية السابقة إلى البنية الفصيحة، في عمليَّة ترجمةٍ تلقائيَّةٍ، مراوحةً بين مستويين لغويَّين. وهو ازدواج يُرهق الذهن، ويُربك الفهم والإفهام، ويُحدث درجاتٍ متفاوتة من اللَّبس في عمليَّتَي الإرسال والتلقّي. ولهذا تَحدث معاناة العربيّ المريرة في القراءة، في نوعٍ ممَّا يسمَّى بإعاقة القراءة Alexia. والناشئ العربي لا يقرأ لا لأنه أقلّ من الأوربي حُبًّا للاطِّلاع بالضرورة، ولكن لأنه معاق، يعاني من تلك الازدواجيَّة الذهنيَّة بين لغتين من أصلٍ واحد. ثم هو، إنْ قرأ، لا يستوعب كثيرًا ما يقرأ. فتَصْرِفه المشقَّة القرائيَّة- مع الشعور بالخيبة الذهنية والنفسيَّة من تحصيل المعلومة والمتعة ممّا قرأ- عن حُبّ القراءة عمومًا. مصداق ذلك أنك تراه، إذا تعلَّم لغة أخرى وأحسنها، صار شغوفًا بالقراءة، وازداد تمثُّلًا لكثيرٍ ممّا كان يقرأه بلغته ولا يكاد يفقهه، فإذا هو يقرأه بلغةٍ أخرى ويفهمه على نحوٍ أفضل ممّا كان يفهمه بلغته، وإن اتَّصل بصميم ثقافته نفسها، وكان يُفترض أن يفهمه بلغته لا بغيرها.
وأنت تشاهد هذا حينما تقرأ خبرًا أو تعليقًا في إحدى صُحفنا، ثم تقارنه بما كُتب عنه بالإنجليزيَّة مثلًا، فتلحظ- وإنْ كنت متخصِّصًا في اللغة العربيَّة- الغموض، والتشوُّش، والاختلاط الذي يكتنف النصَّ العربي، ومن هناك المشقّة في الفهم، والوقت الذي تستغرقة قراءة النص العربي لاستيعاب الفكرة. وأهم أسباب هذا أننا نستعمل لغتنا على نحوٍ غير طبيعيّ؛ فينشأ ذلك الاضطراب والتداخل بين الإيحاءات، والتعبيرات، والصِّيَغ. وهو اضطرابٌ وتداخل أساسهما ناتج عن ازدواج العمليّات اللغويَّة الذهنيَّة مع الفصحى.
بل لقد امتدَّت جناية العامِّيَّات العربيَّة إلى اللغات الأجنبيَّة حينما يأتي أهلوها لنقل بعض التسميات العربيَّة، متصوِّرين أن لغة العرب كلغاتهم هم، لا تعاني هذا الشرخ بين منطوقها وأصلها، فيأخذون أسماء أماكن وأشياء بحسب ما يسمعونه على ألسنة الناس من تلك البنى اللغويّة المكسَّرة المحرَّفة، فيسجلونها في كتبهم تسمياتٍ ومصطلحات، ظنًّا بأنها كذلك في اللغة العربيَّة. مثال ذلك تسمية الصحراء: Sahara، في بعض الكتب والخرائط الجغرافيّة. آخذين الكلمة- فيما يبدو- من أفواه المصريِّين، الذين ينطقونها: «صَحَرا»؛ فإذا الكلمة بهذا الشكل تزيِّن الخرائط، عامِّيَّةً عربيَّةً ولكن بحروف لاتينيَّة! وهكذا صار ينطقها الخواجات كما ينطقها بعض العوامّ الذين اقتبسوا عنهم. إلَّا إنْ قيل: إنّ Sahara هي الجمع: صحارَى. وهو قولٌ بعيد الاحتمال.
وتأتي الحملات التي تُشنّ لتعزيز العامِّيَّة وتعميمها ونشرها إعلاميًّا- والمرحلة المقبلة ربما سيكون نشرها تعليميًّا أيضًا- لتُسهم في المزيد من تعقيد الأمر على حضور اللغة العربيَّة، وفعاليَّتها في حياتنا، ووضع العثرات في سبيل مستقبلها. ويُسهم ذلك، من ثَمَّ، في المزيد من تمهيد الأرض لإحلال اللغة الإنجليزيَّة محلّ اللغة العربيَّة في بلاد العرب. والمساعي حثيثة لفرض تعليم الإنجليزيَّة على الطفل العربي- ولو قبل الولادة، لو أمكن!- ليُقولَب ذهنة وانتماؤه وفق المواصفات والمقاييس المطلوبة عالميًّا، كي تنتهي مشكلتنا مع بقايا جيناتنا القديمة، المُقلقة للأمن والسلم العالميَّين!
تضاف إلى تلك عوامل أخرى. من أخطرها ازدياد السكان غير العرب في الدول العربيَّة، ولاسيما في دول الخليج العربي. ولقد بات أبناء البلاد الأصليّين في بعضها لا يمثِّلون إلَّا أقليَّة. وإذا استمرَّت الحال في تناميها على وتيرة ما هي عليه الآن، فسيتفاقم الخلل في التركيبة السكَّانيَّة، ليُصبح العرب أقليَّةً بالفعل في بعض دول الخليج، غريبي الوجه واليد واللسان، يَطْفُون في طوفان من الأجانب: وافدين، أو مهاجرين، موظَّفين، أو عمّالًا، أو خدمًا، أو سمِّهم ما شئت. بل سوف تنشأ لهؤلاء حقوق تتعدَّى الشأن اللغوي إلى شؤون دستوريَّة ووطنيَّة وتمثيليَّة! كيف لا، وقد باتت بعض الدول- كالهند- تطالب علنًا دولًا خليجيَّة بذلك. ومن حقِّها قانونيًّا أن تفعل، وإنما على نفسها جنت براقشنا! كلّ هذا بسببٍ من كسل براقشنا وتقاعسها عن العمل، وترفها واتِّكالها على العمالة الأجنبيَّة للنهوض بكل شؤونها. وتلك هي عاقبةُ براقش الحتميَّة: أن يبتلعها أولئك الوافدون لغويًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا. فإذا أُضيف إلى هذا الفيضان من الناطقين بغير العربيَّة أن العرب أنفسهم لم يعودوا من الناطقين بها أصلًا، تبيَّن مستقبل اللغة العربية المظلم.
ومن اللافت في هذا السياق، ومن الدالّ والمريب في آن، أنك لا تكاد ترى المتحمِّسين للعاميَّة المحاربين من أجلها إلَّا وهم في المقابل من أشدّ المحتفين باللغة الإنجليزيَّة في خطاباتهم وكتاباتهم، متشدِّقين بها، بمناسبة وبغير مناسبة. بل ستجد بعضهم يباهي بأن له نصوصًا شِعريَّة (نبطيَّة) باللغة الإنجليزيَّة الفصحى! أو يدعو إلى ترجمة شِعرنا العامِّي للإنجليز الفصحاء- الذين يعتزُّون بلغتهم أيَّما اعتزاز- لكي ينهلوا من مواردنا العذبة، ويعرفوا عنا أكثر ممَّا عرفوه أيّام الاستعمار والاستشراق. وربما ليحذوا حذونا اللغوي والأدبي أيضًا، فيُصبح لديهم شِعرٌ نبطيّ «بالإنجليزي»، ومسابقات، وشاعر مليون، وشاعر قلطة، وشاعر جلطة، ويَسنُّون جوائز عالميَّة بالملايين في سبيل الشِّعر النبطي الإنجليزي! فهم بلا شك متخلِّفون عن ركبنا التاريخي الرائد، إنما يُنفِقون أموالهم في التقنية وتنمية الأوطان والإنسان وعِلم الفضاء، ونحو هذا من «الكلام الفاضي»، لا فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض! ولا غرو، فكلّ إناء بما فيه ينضح، فأمثال هؤلاء- الذين يرون هذا، ويتبنَّونه وإنْ لم يقولوه- يُعانون حَوَلَهم الفكري، وعُقَد نقصهم الحضاري، ومرقَّعات أزيائهم اللغويَّة والثقافيَّة، مع ضحالة في الوعي بما يفعلون! بيد أن هذا المستوى من الوعي قد لا يكون سطحيًّا، بمقدار ما هو «انبطاحيّ». وهو حينئذ يكشف- إلى جانب الحماس العاطفي للقبيلة أو اللهجة أو العامِّي من الأدب- عن بُعد آخر مريب، ذي خطاب هزليّ، متطلع إلى علاقات دوليَّه على أساسٍ نبطيٍّ. بُعدٌ يعزف على وتر الانتماء، أو بالأصح: اللا انتماء. وبذا يتبدّى أن ما كنّا نخشاه، وينكره المنكرون، قد تعرَّى اليوم حقيقة لا مِرية فيها، وأن الولاء لدى أصحابنا ليس لا للوطن، ولا للأُمة، ولا للثقافة، ولا للتراث اللغوي والأدبي الحقيقي، ولكنه للتفتيت المحلِّي، والشَّرذَمة في الهويَّة، إرهاصًا للارتماء في أحضان أُمَّهاتٍ أخريات! وبناء عليه، فإن على الأمم المتحدة أن تختار بين أمرين، لا ثالث لهما؛ فلقد فشلت تجربة الاعتراف باللغة العربيَّة فشلًا مخجلًا؛ لأن العرب يحبون الرطانة، فلتمض في العُدول عن جعل العربيَّة لغةً أُمميَّةً رسميَّةً من لغاتها، ولتستبدل بتلك الفكرة الحمقاء: اللغة الإنجليزية، أو لهجة من لهجاتنا. لكن المشكلة أيّ واحدة منها تختار؟ لعلّهم يوكلون الاتفاق إلى العرب؛ لأنهم لن يتَّفقوا! وربما تفتَّقت قرائحهم الإبداعيَّة المألوفة، وعشقهم الأزليّ للمسابقات، عن مسابقةٍ في مزايين اللهجات العربيَّة! والتي تفوز تمثِّلنا دوليًّا في مجلس الأمن والهيئة العامة للأُمم المتحدة؛ لأننا نحن أُمَّة غير متَّحدة. أو قد يجعلون التداول على السلطة اللغويَّة دُولةً بين اللهجات العربيَّة، كفكرةٍ ديمقراطيَّةٍ (تمرينيَّة) بديلة عن فكرة المزايين، المكلفة حقًّا!
كُلّ ذلك ما زال في عِلم الغيب. لكن المؤكَّد أننا متجهون جميعًا، وبحمدالله، من «دُحْدَيْرَة»(1) محلِّـيَّة إلى حُفرة أُمَميَّة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدُّحْدَيْرَة: بلسان الحجاز العامِّي: منحدر الأرض. ويقولون: دَحْدَرَ، على وزن دَحْرَج ومعناه. والكلمة مشتقَّة من (حَدَر). ويقولون في أمثالهم، لمن انتقل من حالٍ سيئةٍ إلى حالٍ لا تقل عنها سوءًا: «هو من حُفرة في دُحديرة». فهل التعبير غير عربي فصيح؟ كلّا، وإن خُيّل إلينا ذلك، لكثرة ما أُهمل في مدوَّن العربيّة. ذَكره (الصَّغاني، الحسن بن محمَّد بن حسن (-650هـ)، (1971)، التكملة والذيل والصِّلَة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: إبراهيم إسماعيل الإبياري، مراجعة: محمّد خلف الله أحمد (القاهرة: دار الكتب)، (دحر)): فقال: «الدَّحْدَرَةُ، بتكرير الدال الثانية: الدَّحْرَجَة». ونَبَّه إليه (الزبيدي، تاج العروس، (دحدر))، فقال: «دَحْدَرَهُ، دَحْدَرةً. أهمله الجَوْهَرِيّ، وقال الصّغانِيّ: أَي دَحْرَجه دَحْرَجَةً فَتَدَحْدَرَ.»
* تنويه: كتبتُ في المقال: "...آخذين الكلمة- فيما يبدو- من أفواه المصريِّين"، ولا أدري كيف تحوّلتْ العبارة في ما نُشر في (الراي) إلى: "آخذين الكلمة- فيما يبدو- من أفواه المصريِّون"؟ كما لا أدري لماذا فُعِل ذلك؟ ومَن الذي فَعَلَه؟ وأبرأ إلى سيبويه من الرفع للمجرور، نتيجة التدخّل في مقالي بالتغيير!
12/ 3/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 12 مارس 2013، ص28.
|