كنتُ ذكرت في مقاربةٍ سابقةٍ أن الجَمال، من حيث هو، هو: إحساسٌ لا قواعد له. هو كذلك، مهما تفلسف المتفلسفون حول «الأستطيقا»، منذ (هيجل) إلى ما شاء الله، ومهما حاول هيجل(1) إقناعنا أن للفسلفة طابعًا عِلْميًّا، وبما أن ذلك كذلك، وبما أنه يمكنها مقاربة الجمال من منظورٍ فلسفيٍّ، فمقاربتها إذن مقاربة علميَّة! وتلك مقدّمات خاطئة تفضي إلى نتائج خاطئة؛ لأن الطابع العِلمي غير العِلم، إنْ سُلِّم للفلسفة بذلك الطابع أصلًا. بل من يُسلِّم أن الفلسفة يمكن أن تعالِج مسائل الفنّ معالجةً فكريَّة، محيطة، متَّسقة، ضابطة لآفاقه، كما قد يمكنها في سواه؟ سيظل جَمال الجَمال في أن يكون مباغتًا، بلا مقاييس سابقة، وبلا عِلم قاعديّ. جَماله في تلك المباغتة، وفي كسر القوالب السالفة. ولذا تأتي جَماليَّة الانزياح في النصّ الأدبي، لكسره الإلف. والجَمال ما لم يكسر ثابتًا، لا يكون جَمالًا ولا فنًّا. غير أنه كَسْر بلاغيّ، لا كَسْر عبثيّ. لذلك فإن مصطلح (علم الجَمال) مصطلح عابث. لأن كلمة «عِلْم» تعني، ببساطة، إلغاء فكرتَي (جَمال، وفنّ)، مباشرة. فلو أصبح للجَمال عِلْم، وللفنّ مقاييس محدّدة، لانتفى جوهر الجَمال، وفاضت روح الفنّ إلى عالم الفناء؛ لأنه سينتفي عندئذٍ عامل الدهشة المتولِّد عن انبثاق ذلك المباغِت الكاسِر للتوقُّع.
أمَّا أسطورة أفلاطون الكلاسيكيّة حول ما أسماه (المُثُل العُليا والمحاكاة)، أو فكرة أرسطو البدائيَّة الأخرى حول (الطبيعة ومحاكاتها)، فلا تعدوان كونهما أسطورةً أفلاطونيَّةً وتُحفةً تصوُّريَّةً أرسطيَّةً، لهما رفَّاهما في متحف الأفكار الفلسفيّة. ولمَّا كانت المحاكاة ذات منطلق بدائيّ، توثيني- إذا جاز القول- أي أنها إنما تسعى لمحاكاة صُنع الله في الطبيعة، فقد رفضها الفنُّ الحديث، كما رفضها الإسلام من قبل. لأن المحاكاة إنجازٌ بلا هدفٍ أسمَى من إظهار المهارة في التقليد. والفنّ الحقيقي بضِدِّ التقليد على هذا النحو البارد، والدِّين كذلك بضِدّ ادّعاء المخلوق مهارةَ الخالق. لأجل هذا رُفضت الصورة في الإسلام. والصورة في مرحلة نزول القرآن كانت تلتبس دلالةً بالصنم. ولأن التصوير في تلك العصور كان لا يعدو اتِّباع نظريَّة المحاكاة الببغائيَّة، أو قُل المحاكاة لخلق الله في الطبيعة، والزهو بذلك، وكأنّ الفنان قد صار إلاهًا خالقًا. ومن هذا المنطلق جاء تحريمها. ولئن كان ذلك تحريمًا لأسباب عَقَديَّة، وتنزيهيَّة للخالق الأعلى، فإنه في الوقت نفسه تحريمٌ ثقافيٌّ للتقليد، ودعوةٌ فنِّيَّةٌ، غير مباشرة، للإنسان كيما يتسامَى عن التلهِّي بتكرار المنظورات الحسِّيَّة، إلى آفاق إبداعيَّة، يبتكرها هو، من عالَم الخيال والفكر والروح والرمز والتجريد. وهذا كان منبثَق الفنون الإسلاميَّة في التصوير والرسم والخط والنقش والنمنمة والنحت، ممّا عُرف بفنون «العرابسك»، التي مثَّلتْ نقلة نوعيَّة مبكِّرة جدًّا من عصر المحاكاة إلى تحرير الفنّ، بتوجيهه إلى عالم التخيُّل والتجريد والخلق المستقلّ عن نماذج الطبيعة، والمحاولات الظاهريَّة لاستنساخها.(2) وقد ألمحَ (هيجل) نفسه إلى الموقف الإسلامي من المحاكاة في التصوير، في تنويهٍ معجبٍ بهذا الوعي الفنِّي الإسلامي، وإنْ من منطلقات دِينيَّة.(3)
وإذ نتحدَّث هنا عن الجَمال، فنحن عن جَمال الفنّ نتحدّث، لا عن جَمال الطبيعة. وجَمال الفنّ أسمَى من جَمال الطبيعة؛ لأنه نتاج الرُّوح، والرُّوح أرقَى من الطبيعة؛ فالرُّوح الإنسانيّة، حتى وَفق المنطق الدِّيني، هي من رُوح الله: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين». إضافة إلى ما يُضفيه الفنّ على الجَمال الشكليّ من مُثُلٍ عُليا، لا وجود لها في جَمال الطبيعة. ثم ما يمنحه إيَّاه من خلودٍ إنسانيٍّ، لا يفنَى كفناء الجَمال في الطبيعة.(4) لتلك الفوارق بين جَمال الفنّ وجَمال الطبيعة، قلَّما يختلف الناسُ حول جَمال الطبيعة اختلافهم حول جَمال الفنّ. إنّ جَمال الفنّ جَمال تحوُّليّ، مَوَّار في ذاته، مباغِت لخارجه، وباستمرار. ومن ثَمَّ تُولَد هُويَّته، التي لا تَنْفَد دهشتها. وبما أنه كذلك، لا يُمكن تعريفُه تعريفًا جامعًا مانعًا، أو عَلْمَنَتُه، بحالٍ من الأحوال.
وفي هذا السياق يجب التفريق بين ثلاثة مصطلحات، متداخلة في فهم أكثر الناس لمعنى الجَمال الفنِّي، هي: الجَمال، الحُسن، اللَّذة. إن الجميل بمفهوم الفَنّ، ليس الحَسَن، وليس اللذيذ، بالضرورة. فقد يُعَدّ القبيح جميلًا فنّيًّا؛ للمهارة الجماليّة في التعبير عنه، وللمعنى الروحي المتوخَّى في ذلك التعبير. وقد يكون غير اللذيذ، أو حتى المقزِّز، جميلًا فنّيًّا؛ للمهارة الجماليَّة في التعبير عنه، وللمعنى الروحي المتوخَّى في ذلك. من حيث إن المادة التي يشتغل فيها الفنّ، كما يذهب (هيجل)(5): «هي الحِسِّي المسبَغ عليه صفة الروحيَّة، أو الروحي المضفَى عليه صفة الحِسِّيَّة. إنّ الحِسِّي لا يدخل في الفنّ إلَّا في حالة المثاليَّة؛ في حالة الحِسِّي المجرَّد.» أمَّا حُكم «الحَسَن» وحُكم «اللذيذ»، فحُكمان حِسِّيَّان مادِّيَّان مباشران، لا علاقة لهما بكون المادة من الوجهة الفنِّيَّة جميلة فنِّيًّا. والحِسِّي والروحي خَلْقٌ خياليٌّ واحدٌ في الفنّ الذي يستأهل هذا الاسم. كما أن الذات المتلقّية للجَمال الفنِّي إنما تستمتع به لذاته، لا لنفعها منه. ذلك لأن هدف الجَمال الفنِّي وغايته (في ذاته)، لا في خارجه، وإن تَضمَّن نفعًا خارجيًّا. وهذا ما يقرِّره (كانت)، في كتابه «نقد الحُكم»، ويوافقه (هيجل).(6)
على أن الفنّ كما يقول (هيجل)(7) يُمكنه أن يُحدِث الشرَّ والخيرَ. ذلك لأن «الإنسان غنيٌّ بالخير والشرّ، بالأشياء السامية والدنيئة على حدٍّ سواء؛ ولهذا يَقدر الفنّ على أن ينفخ فينا الحماسة والحميَّة للجَمال والسموّ قدرتَه على الانحطاط بنا وإثارة أعصابنا بتهييجه الجانب الحسّي والشهواني منّا. ليس ثمَّة من فارقٍ، إذن، من هذا المنظور، بين مضامين الفنّ. فالفنّ يَقدر على أن يسمو بنا قدرتَه على أن يحطّنا إلى أنانيّين أدنياء، وعلى أن يشدّنا إلى العالَم الحسِّي قدرتَه على جذبنا إلى الدوائر السامية من الروحيّة.» وبذا فإن بوسع الفنّ أن يُغذِّي غرائزنا البدائيَّة المتوحِّشة؛ فيُعيدنا إلى تجارب الأسلاف الحمراء. وما يميِّز المتحضِّر عن البدائي هو ضبط الغرائز والأهواء، وتنظيمها تنظيمًا إيجابيًّا. وأَنَّى رأيتَ امرأً يَرزَح تحت نِير الهوى، اعلمْ أنه ما زال ضحيَّة شخصيَّته الحيوانيَّة البدائيَّة، التي لم تتهذَّب. وما كانت وظيفة الأديان والنُّظُم الحضاريَّة إلَّا معالجة هذا الجانب في شخصيَّة الإنسان. ولقد نشأتْ معظم الفنون، لذلك، على صِلَةٍ، بشكلٍ أو بآخر، بالدِّين في التجربة البشريَّة. وتأتي خطورة الفنّ- حين يستخضر تلك الأهواء استحضارًا سلبيًّا- بأن يقف عند الشِّقّ الأوَّل من معالجة الفنّ للنفس البشَريّة؛ فيكون كالطبيب الجرّاح الذي فتح القلب المريض، وتركه كذلك ينزف وانصرف. أي حين يُريك شخصيتك على بدائيّتها- بحسب نظريّة (التطهير) لدى أرسطو (Catharsis)- لكنه يقف عند ذلك. ولا نعني بأن عليه أن لا يقف عند ذلك أن عليه أن يحوّل عمله إلى وَعظ. بيد أن أبلغ عبقريّات الفنّ إنما تكمن في المهارة في حلّ هذه المعادلة: (عرض المسكوت عنه، وعدم السكوت عنه). أي عرض النفس البشَريَّة ونقدها، بهدف إصلاحها والارتفاع بها، دون أن ينحطّ الفنّ بذلك إلى منبر الخطيب. ومن هنا فإن الأخطر في العمل الفنّي: أن يغريكَ بالعودة إلى تلك الشخصيّة البدائيَّة، إنْ كنت قد غادرتها. ولذا يناقش (هيجل)(8) تلك الدعاوَى لدى المدافعين عن (أعمالهم الفنّيّة اللا أخلاقيّة)، قائلًا: «لقد حامى بعضهم عن التمثيلات الفنّيّة والأعمال الأدبيّة الأكثر نأيًا عن الأخلاق وأوجدَ الأعذار والمبررات لها؛ بحُجّة أن المرء بحاجةٍ، لكي يكون أخلاقيًّا، إلى أن يعرف الشرَّ والخطيئة أيضًا، وأنه لكي يكون في إمكانه تعرّف الخير فلا غنى له عن معرفة نقيض الخير، وعلى هذا النحو خُيّل لبعضهم أنه مستطيع تبرير اللا أخلاقيَّة في الفنّ! وهذا لم يمنع بعضهم الآخر من القول: إن تمثيلات مريم المجدليّة، الخاطئة الحسناء، قد أوردت مواردَ الخطيئة عددًا من الرجال يفوق بكثير عدد من قادتهم إلى التوبة والندامة». ثم يتساءل في نبرة ساخر: «لكن أليس من الضروري أن يقع المرء في شِراك الخطيئة حتى يمكنه أن يتوب؟!».
وهذا كله، للأسف، ما لا يعيه أكثر المتورّطين في هذا المجال القيمي من الفنّانين والأدباء. ثم تراهم يضجّون إذا استُنكر عليهم ما هم فيه خائضون. مع أنهم يخوضون في أخطر مجالٍ يُمكن أن يخوض فيه بَشَر. إنهم بذلك أخطر من ممارس حرفة الطبّ دون عِلْم. فهذا، مهما وَقَعَ فيه من أخطاء طبّية، أو بالأحرى فَعَلَ ما لا علاقة له بالطبّ أصلًا، فأودَى بحياة بعض الناس، يظلّ فسادُه محدودًا جدًّا قياسًا إلى هؤلاء. والسبب أن أكثر هؤلاء الفنّانين والأدباء موهوبون لكنهم غير مثقَّفين، أو هم موهوبون ومثقّفون، لكنهم لا يستشعرون المسؤوليّة الاجتماعيّة، أو ربما لا يعزب عنهم ذلك كلّه، غير أن الفنّ لديهم قد بات كسبًا، وولوجًا في دهاليز التجارة، ولم يَعُد رسالةً إنسانيّةً سامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في هذا: هيجل، (1988)، المدخل إلى علم الجمال/ فكرة الجمال، تر. جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 32.
(2) عن مضحكات تلك العقليّة الفنّيّة الشغوفة بالمحاكاة، انظر: م.ن، 38- 40.
(3) انظر: م.ن، 42- 43.
(4) انظر في هذا: م.ن، 7- 00؛ 68.
(5) م.ن، 81.
(6) م.ن، 107- 109.
(7) م.ن، 48.
(8) م.ن، 56.
8/ 8/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، العدد 12454، الثلاثاء 6 أغسطس 2013، ص28.
hhttp://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/D272BC03-9451-47FF-B7DE-C83C1A594B63/P28.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=455523&date=06082013
|