هُمُ الأهل!: 4.مقالات:إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي



هُمُ الأهل!
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي

ـ1ـ
قديمًا احتفل اللغويّون والنقَّاد بـ«لاميَّة العرب» (للشنفرَى):
أَقيموا بَني أُمِّي صُدورَ مَطِيِّكُمْ
فَإِنِّيْ إِلى قَومٍ سِواكُمْ لَأَمَيلُ
فَقَد حُمَّت الحاجاتُ واللَيلُ مُقْمِرٌ
وشُدَّتْ لِطيّاتٍ مَطايا وأَرُحلُ
وفي الأَرضِ مَنأًى لِلكَريمِ عَنِ الأَذَى
وفيها لِمَن خافَ القِلَى مُتَعَزَّلُ
لَعَمْرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى امرئٍ
سَرَى راغِبًا أَو راهِبًا وهْوَ يَعقِلُ
وليْ دُونَكُمْ أَهلَونَ سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
وأَرْقَطُ زُهلولٌ وعَرفاءُ جَيْأَلُ
هُمُ الأهلُ لا مُستَودَعُ السِّرِّ ذائِعٌ
لَدَيهِمْ ولا الجانِيْ بِما جَرَّ يُخْذَلُ...
وتوالَى على الاحتفاء بها اللغويّون والشرّاح، كـ(المبرِّد، -286هـ)، و(الزمخشري، -538هـ)، في كتابه «أَعجبُ العَجَب في شرح لاميَّة العرب»، و(يحيى الحلبي، -630هـ)، في «المنتخب في شرح لاميّة العرب»، وغيرهم. وقد رُوِي عن (عمر بن الخطّاب) أنه أوصى بتعليمها الأولاد(1). كما كانت محطّ اهتمام المستشرقين في العصر الحديث. وعُورضت بقصائد، أشهرها «لاميَّة العَجم»، (للطغرائي، 455 - 513 هـ / 1063 - 1120 م)، وهو: الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد، أبو إسماعيل مؤيّد الدين الأصبهاني. شاعر، ووزير، وكاتب. اتَّخذ (السطانُ محمود بن محمد السلجوقي) حُجَّةَ اتهامه بالإلحاد والزندقة فقتله!:
أصالةُ الرأيِ صانتْنِي عن الخَطَلِ
وحِلْيَةُ الفَضلِ زانتْني لدَى العَطَلِ
مَجدي أخيرًا ومَجدِي أوَّلاً شَرَعٌ
والشمسُ رأْد الضُحَى كالشمسِ في الطَّفَلِ
فِيْمَ الإقامةُ بالزَّوراءِ لا سَكَني
بِها ولا ناقتي فيها ولا جَمَليْ
نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكَفِّ منفردٌ
كالسيفِ عُرِّيَ مَتـناهُ من الخِلَلِ
فلا صديقَ إليه مُشتكَى حزَنِي
ولا أنيسَ إليه مُنتَهَى جَذَلِي
طالَ اغترابيَ حتى حَنَّ راحلتي
ورحُلها وقَرَى العَسَّالةِ الذُّبلِ
ما كنتُ أُوثِرُ أنْ يَمتدَّ بيْ زمني
حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ...
والخِلَل، المذكورة في قوله «كالسيفِ عُرِّيَ مَتناهُ من الخِلَلِ»: جمع خِلَّة، وهي غِمْد السَّيف، ونحوه من الأسلحة. وما زالت الكلمة مستعملة في لهجات (فَيْفاء) بالمعنى نفسه، غير أن نُطق كسرة الخاء يأتي لديهم مع إشمامها الضمّ. ومع هذا تجد (الصَّفَدي) يخوض في شرح الكلمة مشيرًا إلى «حلية السَّيف»! وما قول الطغرائي إلّا كقول (لبيد بين ربيعة):
فَأَصبَحتُ مِثلَ السَّيفِ غَيَّــرَ جَفنَهُ ** تَقادُمُ عَهْدِ القَينِ وَالنَّصلُ قاطِعُ
فالخِلَّة، كما أورد (ابن منظور)(2): جَفن السَّيف المُغَشَّى بالأَدَم. وقال (ابن دريد)(3): الخِلل بِطائن كانت تُغَشَّى بها أجفان السيوف، تنقش بالذهب وغيره. والقول لا ما قال ابن دريد؛ بل الخِلَّة الجفن نفسه، غُشِّيَ أو لم يُغَشَّ. بدليل اللسان العربي الذي ما زال شاهدًا.
ـ 2 ـ
ولم يكن ذلك الاهتمام بلاميّة العرب لجزالاتها، أو أهميتها اللغويَّة، فحسب، وإنما أيضًا لأهميتها القيميّة. لقد رأوا فيها إيقونةً رمزيّة للشخصيَّة العربيَّة، توارثتها الأجيال، لمكانتها تلك، بقطع النظر عن قائلها، ومنزلته، وقبيلته، ودِينه. إنه الاحتفاء بالنصّ للنصّ، وباللغة للغة، والقيمة الإنسانية للقيمة الإنسانية. غير أنه احتفاء لا يفصل الجمالي عن اللغوي، ولا العاطفي عن الذهني، ولا الفنّي عن القيمي. وهنا يتبدَّى الفرق في الوعي بين احتفاءٍ بتراث واحتفاءٍ بتراث.
وكثيرًا ما يحتجّ المنتصرون للأب العامّي اليوم والتغنِّي به بما فيه من جماليّات، وأحيانًا بما فيه من قيم وتاريخ. ومع أن هذا مجرَّد حكم انطباعيّ، لا يخلو من مغالاة عاطفيَّة، فلقد أشرتُ مرارًا إلى أن ليست القضيّة هاهنا، ولا معيار المفاضلة بين الأدبَين العامّي والفصيح، كامنَين في مستوى الجماليَّة، وتفاوتها بينهما، وإنما القضيّة في اللغة نفسها، التي ترسِّخ بالأدب العامّي انحرافَ اللسان، أو العودة به إلى طورٍ بدائيٍّ متخلِّفٍ، والرضَى بذلك، واستساغته وإبعاد الناشئة عن العربيَّة القويمة، وتحريف ألسنتهم عن اللسان المبين.
إن الأدب لغةٌ قبل أيّ شأن. ثم إن الأدبَ العامّي- إلى ذلك- عاملُ ترسيخٍ لغُثاءٍ من القِيَم، التي هي إلى البداوة، والبدائيَّة، والتوحُّش، والتخلُّف، أقرب منها إلى التحضُّر والإنسانيَّة. وهي قِيَم ذهنيّة واجتماعيّة، لو قورنت حتى بلاميّة الشنفرَى- الشاعر الجاهلي الصعلوك- لبزَّتها هذه الأخيرة إنسانيَّة وتحضُّرًا (وُجوديًّا). وليس مقياس الحضارة ببيئة الإنسان، فكم من عائشٍ في أرقى المدن الحديثة، وهو بعقليّة العصر الحجري! وكم من ساكنٍ مجاهل القفار أرقى من ساكن (نيويورك) إنسانيّةً! لأن الحضارة عقلٌ وروحٌ، لا تراب وأبنية. ولذا، فلو كان حُكم الجماليَّة مسوِّغًا لاستبدال لغة أدبيّة بلغة، لكان لنا في الآداب بغير العربية، إذن، ما نستبدله بالأدب العربي!
ومهما يكن من أمر، فإنه لا يخلو أيّ شيء من بعض فائدة أو جمال، كائنًا ما كان. وهذه سنة الله في خلقه. لكن العقل يحتّم الموازنة بين المنافع والمضارّ، وعدم الإيغال في ما قد يكون ضرره أكبر من نفعه. هذه الموازنة منهاجٌ إلاهيٌّ، يقتضي العقلُ أن نتخذه في كلّ شأن. كما في الآية القرآنية: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا. ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ؟ قُلِ: الْعَفْوَ. كَذَ?لِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ?. فما غَلَبَ ضررُه على نفعِه أصبح خمرًا وميسرًا، حرامًا بهذا المعنى. ومِن هذا المنطلق جاءت القاعدة الفقهيّة: كلّ مسكرٍ خمر؛ لأن التحريم ليس مداره على المادّة نفسها: «الخمر»، من حيث هي، بل على الأَثَر، وعلى الضَّرر الناتج، فما أدّى إلى ذلك الضَّرر فله حكم الخمر. وتبعًا لذلك نستطيع القول: كلّ مُضِرٍّ خمر، ولو كان جميلًا أو مفيدًا من بعض وجوهه. ولو أخذ الإنسان بهذا الفقه وأخذت المجتمعات، لاستقامت الحياة وسَعِد الجميع. ولكن هيهات؛ فالعواطف والمصالح- التي تُسمَّى عادةً: (إبليس)- تَحُول دون ذلك! وذلك هو الأساس النظري المبدئي لما يقع فيه الاختلاف في هذا الشأن أو ذاك. إن الحقيقة واحدة، ولا تتجزأ- اللهم إلّا في ألاعيب الهراطقة والدجاجلة- وآلة الوصول إلى الحقيقة الواحدة واحدة كذلك، هي (العقل). ولكن أين مَن «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون»؟! إن الأدب ليس بلعبة جماليَّة بحتة، بل هو فوق وظيفته الجماليَّة ذو وظيفة لغويَّة وثقافيَّة وفكريَّة وقيميَّة، لا تنفصم عنه بحالٍ من الأحوال. ومن هنا يأتي تشكيله الهُويَّة القوميَّة للناطقين بلغته. «أنا لغتي»، كما قال (محمود درويش). ومَن لا يعي أنه لغته، وأن لغته هي هو، فقل عليه وعلى هويّته السلام! وما مفتاح خيبات العرب المعاصرة إلّا «اللغة»، ثم أنهم «لا يَتَفَكَّرُون»!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصَّفَدي، صلاح الدين بن أيبك، (1305هـ)، الغيث المسجم في شرح لامية العجم، (القاهرة: المطبعة الأزهرية)، 1: 13.
(2) انظر: لسان العرب، (خلل).
(3) انظر: جمهرة اللغة، (خلل).


16/ 8/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
 | 

....................................................................................................

* صحيفة "الرأي" الكويتية، العدد 12463، الخميس 15 أغسطس 2013، ص25.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/365DB168-398C-430B-874E-3F2E1509E0F1/P25.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=457290&date=15082013




للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©