مدخل:
عُرف عن الشِّعر العربي القديم عمومًا، والجاهليّ أساسًا، اتّصافُه بأنه غنائيّ ذاتيّ، أو في أحسن الأحوال، تطغَى الذاتيّةُ فيه على الموضوعيّة. فلِمَ غابتْ في الشِّعر الجاهليّ فنون الشِّعر الموضوعيّة- كالملحمة، والشِّعر التمثيليّ، والقصصيّ، والتعليميّ- التي عُرفتْ في شِعر أُممٍ أخرى، كالإغريق والفرس؟ لِمَ سيطرتْ النزعةُ الذاتيَّةُ على الشِّعر الجاهليّ، بَلْهَ على الأدب العربيّ من بَعْد، وما دلالاتُ ذلك القِيميّة والثقافيّة؟ أ ذلك، فقط، بسبب التفاوت الحضاريّ، بين أُمَمٍ ذات مدنيّةٍ وحضارةٍ وأخرى تغلب عليها ثقافة البادية؟ أم أن لذلك صلة بالعِرْق، وطبيعة الشخصيّة، والحياة الاجتماعيّة، وبالقِيَم الثقافيّة السائدة في ذلك كله؟ ثم إذا كانت قد وُجِدَتْ بعض مظاهر الشِّعر الموضوعيّ في الشعر الجاهليّ، فما دلالاتها الثقافيّة والقيميّة؟
تلك أسئلة هذه المقاربة، التي لم تَعُد تكمن أهميَّة الإجابة عنها في فهم طبيعة النزوع الأدبي فحسب، ولكن أيضًا في مراجعة الطبيعة المائزة للشخصيّة الثقافيّة العربيّة. ومن ثَمَّ فإن هذه المحاولة تُسهم في تحليل البنية التكوينيّة للإنسان العربي ومجتمعه، منذ جذور الماضي إلى تشكّلات الحاضر.
ولمـّا كان الشِّعر الجاهلي هو معدن الشِّعر العربي ومخاض تقاليده الفنيّة والموضوعيّة، فإن نتائج بحثٍ فيه يمكن أن تسقط على حركة الشِّعر من بعده، التي ظلّت رهينة نموذجه الفنيّ وقِيَمه العُليا عبر العصور. وإن أرقَى نماذج الشِّعر الجاهلي: السبع المعلّقات، منها الخمس المتّفق غالبًا من قِبَل الرواة على نموذجيّتها وتقديمها على سائر الشِّعر الجاهلي، وهي معلّقات (امرئ القيس، -542)، و(طَرَفَة بن العبد، -562)، و(عمرو بن كلثوم، -582)، و(زهير بن أبي سُلْمَى، -609)، و(لبيد بن ربيعة، -661). إضافة إلى معلّقتَي (النابغة الذبياني، -604)، و(الأعشى، -629). قال (المفضّل بن عبدالله)، كما يشير تلميذه (أبو زيد محمد بن أبي الخطّاب القرشي، المتوفّى أوائل القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي) في كتابه «جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام»(1):
«هؤلاء [امرؤ القيس، زهير، النابغة، الأعشى(2)، لبيد، ابن كلثوم، طرفة] أصحاب السبع الطِّوال، التي تسمّيها العرب السُّموط. فمن زعم أن في السبع لغيرهم، فقد أبطل، وخالَفَ ما اجتمع عليه أهل العلم والمعرفة. ولقد أدركتُ أكثر أهل العِلم ليس بينهم فيهم خلاف. وإن بعدهنّ لسبعًا، ما هنّ بدونهنّ، ولو كنتُ ملحقًا بهنّ سبعًا لألحقتهنّ. ولقد تلا أصحابُهنّ أصحابَ الأُوَل، فما قصّروا، وهنّ المجمهرات...».
على حين كان (حمّاد الراوية، -155هـ= 772م) يستبدل بالنابغة والأعشى: (عنترة، -600)، و(الحارث بن حلّزة، -572). ويضيف (التبريزي، -502هـ= 1109م) (عَبيد بن الأبرص، -554).
ولمّـا كانت المعلّقات تُعَدّ الأثر الأوّل والرئيس عن الشخصية الثقافيّة العربيّة، والمؤثّرة في تلك الشخصيّة في آن، فإن لتلك القصائد مكانتها وأهميتها الثقافيّة. وقد روى (ابن عبد ربّه، -328هـ= 940م)(3) في شأنها:
أن الشِّعر كان «ديوان العرب خاصة، والمنظومَ من كلامها، والمقيِّدَ لأيّامها، والشاهد على أحكامها. حتى لقد بَلَغَ من كَلَف العرب به، وتفضيلها له، أن عَمَدَتْ إلى سبع قصائد، تخيّرتها من الشِّعر القديم، فكتبتْها بماء الذهب في القَباطي المُدرجة، وعَلّقتْها بين أستار الكعبة. فمنه يقال: مُذهَّبة امرئ القيس، ومُذهَّبة زهير. والمُذَهَّبات سبع، وقد يقال: «المُعَلَّقات». قال بعض المُحْدَثين يصف قصيدةً له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:
بَرْزَةٌ تُذكَر في الحُسْــ ** ـــــــنِ من الشِّعْرِ المعلَّق.»
وهذا شاهدٌ على نموذجيّتها البالغة حدّ التقديس لدى العرب. على حين جاء (النحّاس، -338هـ= 950م)(4)، وبعد أن شَرَحَ المعلّقات السبع- حسب تصنيف حمّادٍ لشعرائها- ليقول:
«هذه آخر السبع المشهورات، على ما رأيتُ أهل اللغة، يذهب إليه منهم (أبو الحسن ابن كيسان). وليس لنا أن نعترض في هذا، فنقول: في الشِّعر ما هو أجود من هذه، كما أنه ليس لنا أن نعترض في الألقاب وإنما نؤدّيها على ما نُقلتْ إلينا نحو: المصدر والحال والتبيين. وقد رأيتُ من يذهبُ إلى أن قصيدة الأعشى [...] وقصيدة النابغة [...] من هذه القصائد، وقد بيَّنا أن هذا لا يؤخذ بقياس، غير أنّا قد رأينا أكثر أهل اللغة يذهب إلى أن أشعر أهل الجاهليّة: امرؤ القيس، وزهير بن أبي سُلمى، والنابغة، والأعشى، إلّا (أبا عبيدة)، فإنه قال: أشعر الجاهليّة ثلاثة: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة؛ فحدانا قول أكثر أهل اللغة على إملاء قصيدة الأعشى وقصيدة النابغة؛ لتقديمهم إيّاهما وإن كانتا ليستا من القصائد السبع عند أكثرهم. واختلفوا في جمع هذه القصائد السبع، فقيل: إن العرب كان أكثرها يجتمع بعكاظ ويتناشدون، فإذا استحسن الملكُ قصيدةً، قال: علِّقوها وأثبتوها في خزانتي. وأمَّا قولُ من قال: إنها عُلِّقتْ في الكعبةِ، فلا يعرفه أحد من الرواة، وأصحّ ما قيل في هذا: أن حمادًا الراوية لمّا رأى زُهْدَ الناس في حفظ الشِّعر جمع هذه السبع وحضَّهم عليها، وقال لهم: «هذه المشهورات»؛ فسميتْ القصائد المشهورة لهذا.»
كما نقل (ابن رشيق، -456هـ= 1064م)(5) عن القرشي كلامه السابق عن المفضّل، قائلًا: «فأسقطا [أبو عبيدة(6) والمفضّل] من أصحاب المعلّقات: عنترة، والحارث بن حلّزة، وأثبتا: الأعشى والنابغة.» ثم أضاف:
«وكانت المعلّقات تسمّى «المُذَهَّبات»: وذلك أنها اختيرتْ من سائر الشِّعر، فكُتبت في القباطي بماء الذهب، وعُلِّقَتْ على الكعبة، فلذلك يقال: «مُذَهَّبَة فُلان»، إذا كانت أجود شِعره، وذَكَر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك، إذا استُجيدتْ قصيدةٌ، يقول: علّقوا لنا هذه؛ لتكون في خزانته.»
أمّا (ابن خلدون، -808هـ= 1406م)(7) فيقول:
«اعلم أن الشِّعر كان ديوانًا للعرب، فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كلّ واحدٍ منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصَر؛ لتمييز حَوْكِه. حتى انتهوا إلى المناغاة(8) في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجّهم، وبيت أبيهم إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس بن حُجْر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سُلمَى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، والأعشى، وغيرهم من أصحاب المعلّقات السبع. فإنه إنما كان يَتَوَصَّل إلى تعليق الشِّعر بها من كان له قُدرةٌ على ذلك بقومه وعصبيَّتِهِ ومكانه في مُضَر، على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلَّقات.»
وقال (البغدادي، -1093هـ= 1682م)(9):
«معنى المعلّقة: أن العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشِّعر في أقصى الأرض فلا يُعبأ به ولا يُنشده أحدٌ، حتى يأتيَ مكة في موسم الحجّ، فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه رُويَ، وكان فخْرًا لقائله، وعُلِّقَ على رُكن من أركان الكعبة، حتى يُنظَرَ فيه، وإن لم يستحسنوه طُرِح ولم يُعْبأ به. وأوّل من عَلَّق شِعْرَه في الكعبة امرؤ القيس، وبعده عَلَّقت الشعراء. وعددُ من عَلَّق شِعره سبعة، ثانيهم طرفة بن العبد، ثالثهم زُهير بن أبي سُلمى، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلّزة، سابعهم عمرو بن كلثوم التغلبي، هذا هو المشهور.» ناقلاً كلام ابن رشيق السابق، عن القرشي.
فمن أين لهؤلاء هذه الأخبار والمعلومات؟
ذاك ما سنتطرّق إليه في الحلقة التالية من هذه الورقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ورقة بحث طرحتُ ملخّصها في )ندوة الأعشى)، (سوق عكاظ-7)، الطائف، مساء الأربعاء 5 ذي القعدة 1434هـ= 11 سبتمبر 2013م.
(1) (1981)، تح. محمّد علي الهاشمي (الرياض: جامعة الإمام محمّد بن سعود)،1: 218- 219. وقد نبّه محقّقه إلى أن المفضّل المقصود في إحالات أبي زيد هو شيخه، المفضّل بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن المجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب، وليس بالمفضّل الضبّي، عالم الكوفة المشهور. (انظر: 1: 37، ح 2).
(2) جدير بالإشارة هنا أن أبا زيد عَدَّ معلقة النابغة هي ذات المطلع:
عَوجوا فَحَيُّوا لِنُعمٍ دِمنَةَ الدَّارِ // ماذا تُحَيُّونَ مِن نُؤْيٍ وَأَحجارِ
ومعلقة الأعشى ذات المطلع:
ما بُكاءُ الكَبيرِ بِالأَطلالِ // وَسُؤالي فَهَلْ تَرُدُّ سُؤالي
(3) (1983)، كتاب العقد الفريد، تح. أحمد أمين؛ أحمد الزين؛ إبراهيم الإبياري (بيروت: دار الكتاب العربي)، 5: 269.
(4) (1973)، شرح القصائد التسع المشهورات، تح. أحمد خطّاب (بغداد: وزارة الإعلام)، 681- 682.
(5) (2000)، العُمدة في صناعة الشِّعر ونقده، تح. النبويّ عبد الواحد شعلان (القاهرة: مكتبة الخانجي)،1: 146- 147.
(6) كلام ابن رشيق عن «أبي عبيدة» هاهنا غير دقيق؛ فالقرشي إنما نقل عن أبي عبيدة تقديمه هؤلاء الشعراء السبعة على غيرهم من الشعراء الجاهليين، لا قوله إنهم هم أصحاب السبع السُّمُط، وإنما ذلك كلام المفضّل. (انظر: القرشي، 1: 218).
(7) (2001)، مقدمة ابن خلدون، تح. درويش الجويدي (صيدا- بيروت: المكتبة العصريّة)، 584.
(8) كذا الكلمة في النسخة المحقّقة، ولم يعلِّق عليها المحقق، ولعلها تصحيف: «المباهاة».
(9) (1979)، خزانة الأدب ولُبّ لُباب لسان العرب، تح. عبد السلام محمّد هارون (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 1: 125- 126.
(**) ملحوظة: ورد في المقال: "وهي معلّقات امرئ القيس...، وطَرَفَة... "، فنُشر في "الراي": "وهي معلّقات امرؤ القيس...، وطَرَفَة..."!
26/ 9/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12503، الثلاثاء 24 سبتمبر 2013، ص36.
|