الحساسية السرديَّة في تجربة الأعشى الشِّعريَّة-9 : 4.مقالات:إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي



الحساسية السرديَّة في تجربة الأعشى الشِّعريَّة-9
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي

-1-
كان العرب يَعُدُّون الشِّعرَ عِلْمًا- بالمعنى المعرفيّ العامّ- إذْ كان الشِّعر «ديوان عِلْمهم، ومنتهَى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون... قال عُمَر بن الخطّاب: كان الشِّعرُ عِلْمَ قومٍ لم يكن لهم عِلْم أصحّ منه.» (1) على أن هذا لا ينفي معارف أخرى متفرِّقة كانت للعرب. إلّا أن ما يُشار إليه بمصطلح (الشِّعر التعليميّ) إنما هو ذلك الشِّعر الذي كان يقال بمقصديّة التعليم، أو التوعية، والتوجيه المباشر. وحدود الاتّجاه إلى الوظيفة التعليميّة في الشِّعر الجاهليّ تتمثّل في شِعر الحِكمة (Gnomic Poetry)- الذي يعكس تجارب الشاعر وقراءته «الذاتيّة» في الحياة والمجتمع، دون النَّظم التعليميّ المعرفيّ (Didactic Verse). وأشهر نصوص الشِّعر الجاهليّ التي تضمَّنتْ أهدافًا تعليميّة من ذلك النوع حِكَمُ (زُهير بن أبي سُلمى) (3) في معلَّقته: (الأبيات 26- 33، 48- 60). وقد عدّ (حنّا الفاخوريّ)(2) تلك الأبيات من الشِّعر التعليميّ، لكنه قال: «إن شِعرهم التعليميّ يخلو عادةً من النَّفَس الشِّعريّ الحقيقيّ، فهو جافٌّ بمجمله، أقرب إلى النثر منه إلى الشِّعر.» ولا شكّ أن النَّظْمَ التعليميّ المحض- على غرار (ألفيّة ابن مالك) في علم النحو مثلًا- هو كما وصف الفاخوريّ حقًّا، بل لا علاقة له بالشِّعر. ولذلك فمن غير المناسب أصلًا أن يُطلق على هذا النوع (شِعرًا تعليميًّا)، بل هو (نَظْم تعليميّ). أمّا الشِّعر التعليميّ والحِكْمِيّ- كأبيات زُهير- فالأمر فيه متفاوتٌ بين الشعراء، كحال الشِّعر بينهم، بصفة كلّيّة. وأبيات زُهير الحِكميّة تُعدّ من قَبيل (التمثيل الخطابيّ)، الذي يصف (حازم القرطاجني)(4) أنماطه بأنها «خطابيّة: بما يكون فيها من إقناع، شِعريّة: بكونها متلبِّسة بالمحاكاة والخيالات.» وهذا النوع بالغ التأثير في المتلقِّي لهذه الازدواجيّة بين الحِكمة والشِّعريّة، بين لغة العقل ولغة العاطفة؛ والشِّعر «قد تكون مقدّماته يقينيّة ومشهورة ومظنونة، ويفارق البرهان والجَدَل والخطابة بما فيه من التخييل والمحاكاة، ويختصّ بالمقدّمات المموّهة الكذب... فالتخييل هو المعتبَر في صناعته، لا كون الأقاويل صادقة أو كاذبة.»(5) ولم تك روح المعلِّم (الحكيم) في زُهير تطغى على روح الشاعر، بل جاءت كلٌّ منهما ترفد الأخرى، في سياق شعوريّ منسجم. بلفظٍ آخر: جاءت موضوعيةُ زُهير ممازجةً ذاتيّته؛ وقد تقدّم أن الموضوعيّة في الأدب هي صفة نِسْبِيَّة، وإلّا لو انتفت الذاتيّة عنه- كما هو الحال في النَّظْم التعليميّ- لانتفت أدبيّته، فضلًا عن شِعرِيّته.
ولم يكن الشِّعر التعليميّ قاصرًا في العصر الجاهليّ على الشيوخ- كزُهير، ابن الثمانين، الذي «سئم تكاليف الحياة»- ولكنه ينبثّ في شِعر الشباب أيضًا، من أمثال (طَرَفَة)(6) في معلَّقته: (الأبيات 54- 67، 78، 101- 103). إلّا أن توجّه زُهيرٍ المتعقّل والسِّلْمِيّ يقابله توجّهُ طرفة، المدفوع بفورة الشباب إلى الدعوة للتروِّي بالملذّات؛ لإحساسه المُلِحّ بعبثيّة الحياة، ودنوّ الأجل: «ما أقرب اليوم من غد!». حتى إن لفظة «الموت» وحدها تتردَّد في أبياته المشار إليها ستَّ مرّات. إن المستقبَل- حسب طرفة- غامض، والخلود مستحيل، والمصير واحدٌ بلا استثناء. ومن هنا جاءت أبياته أعمق شاعريّة، وأقلّ تعليميّة من أبيات زُهير؛ بسبب تلك الروح المنتفضة بالحياة، لا السئمة من تكاليفها، في الوقت نفسه الذي هي فيه مؤرّقة بهاجسُ الفناء.
-2-
أمّا الوصف، فهو بابٌ واسعٌ في الشِّعر الجاهلي. منه: وَصْف الأطلال، والظعن، والفَرَس، والناقة، والسحاب والمطر، وحتى وصف مجالس الشراب واللَّهْو، ووَصْف الحبيبة. على أن الذاتيّة تغلب على بعض تلك الموضوعات، ولاسيما وَصْف الحبيبة، والأطلال، والظعن. إذْ لا يمكن الزعم أن الشاعر يصف هناك للوصف؛ بحيث يبدو كأنه يتحدّث عن أشياء خارجة عنه. وحتى في تلك الموضوعات الوصفيّة التي كان يبدو عنصرُ الذاتيّة فيها أقلّ حضورًا- كوصف الناقة، أو الفرس، أو الطبيعة- لم يَعُد اليوم في إمكان ناقدٍ-- مطّلِع على أحوال المجتمع العربيّ قبل الإسلام وفكرِهِ السائد-- التسليمُ بموضوعيّة الشاعر، وهو يصوِّر حيوانًا، أو جمادًا، أو مظهرًا من مظاهر الطبيعة؛ بعدما تكشَّف اليومَ عن أساطير العرب، وعقائدهم الرمزيّة وراء الأشياء. الأمر الذي يُظهر الوصفَ في القصيدة الجاهليّة معبّأً بنوازع الشاعر، وهمومه، ورغباته، بل يجعل وصف حيوان، كالناقة أو الثور الوحشي، يبدو وصفًا غير مباشر للذّات الشاعرة.(7)
من هذا المنطلق فإنّ فنّ الوصف في الشِّعر الجاهليّ يأتي محمَّلًا بالذاتيّة، إلى درجة توشك أن تذهب بصفة الموضوعيّة عنه، وتُلغي وجوده ضمن الأغراض الموضوعيّة. ولعلّ القارئ في غنًى عن التذكير بحجم هذه المادّة الوصفيّة، من وصْف الأطلال والظعن في معلّقة طرفة(8): (الأبيات 1-5)، أو في معلّقة (لبيد)(9): (الأبيات 1- 15). ووصْف الفرس والصَّيد في معلّقة (امرئ القيس)(10): (الأبيات 49- 66)، بما يتميّز به من أسلوبٍ سرديٍّ قصصيّ، وبخاصة في وصْف الصَّيد. ووصْف الناقة التفصيليّ الطويل في معلَّقة طَرَفة(11): (الأبيات 11- 43). ثمّ وصْف امرئ القيس(12) للسحاب والمطر في معلَّقته: (الأبيات 67- 77)، حيث يبدع لوحةً فنِّيَّةً، ذات مشاهد طبيعيّة حيّة، تعجّ بالحركة والإيحاء. أمّا وَصْف مجالس الأُنس والشراب والطَّرَب لدى طرفة(13): (معلّقته 48- 50)، أو (الأعشى) (14): (معلَّقته 35- 44):

فَقَد أُخالسُ رَبَّ البيتِ غَفلتَهُ
وقَد يُحاذِرُ مِنِّي ثُمَّ ما يَئلُ
وقَد أَقودُ الصِّبَى يَومًا فَيَتبَعُني
وَقَد يُصاحِبُني ذو الشِّرَّةِ الغَزِلُ
وقَد غَدَوتُ إِلى الحانوتِ يَتبَعُني
شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلشُلٌ شَوِلُ
في فِتيَةٍ كَسُيوفِ الهِندِ قَد عَلِموا
أَن لَيسَ يَدفَعُ عَن ذي الحيلَةِ الحِيَلُ
نازَعتُهُم قُضُبَ الرَّيحانِ مُتَّكئًا
وقَهوَةً مُزَّةٌ راوُوقُها خَضلُ
لا يَستَفيقونَ مِنها وهْيَ راهَنَةٌ
إِلّا بِهاتِ ، وإِنْ عَلَّوا وإِنْ نَهِلوا
يَسعَى بِها ذو زُجاجاتٍ لَهُ نُطَفٌ
مُقَلِّصٌ أَسفَلَ السِربالِ مُعتَملُ
ومُستَجيبٍ تَخالُ الصَّنجَ يَسمَعُهُ
إِذا تُرَجِّعُ فيهِ القَينَةُ الفُضُلُ
مِن كُلِّ ذَلِكَ يَومٌ قَد لَهَوتُ بهِ
وفي التَجارِبِ طُولُ اللَّهوِ والغَزَلُ
والساحِباتُ ذُيولَ الخَزِّ آوِنَةً

يانًا بالسَّرْد القصصيّ؛ لأن الوصف هناك في حقيقته يمثّل حكايات الشاعر وذكرياته، وإنْ لم تكتمل له مقوِّمات القَصَص الفنِّيَّة.
وفي الحلقة المقبلة نتائج هذا البحث، بإذن الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ورقة بحث طرحتُ ملخّصها في (ندوة الأعشى)، (سوق عكاظ-7)، الطائف، مساء الأربعاء 5 ذي القعدة 1434هـ= 11 سبتمبر 2013م. تابع الحلقات السابقة على الرابط:
http://khayma.com/faify/index4.html
(1) الجُمحي، محمّد بن سلام، (1982)، طبقات الشعراء (مع تمهيد للناشر الألماني جوزف هل، ودراسة عن المؤلف والكتاب لطه أحمد إبراهيم)، (بيروت: دار الكتب العلميّة)، 34.
(2) انظر: ابن أبي سُلْمَى، زُهير، (1982)، شرح شعر زُهير بن أبي سُلمى، صنعة: أبي العباس ثعلب، تح. فخر الدين قباوة (بيروت: دار الآفاق الجديدة)، 26- 28، 34- 37.
(3) (د.ت)، تاريخ الأدب العربي، (بيروت: المطبعة البولسية)، 40.
(4) (1981)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح. محمد الحبيب بن الخوجة (بيروت: دار الغرب الإسلامي)، 97.
(5) م.ن.، 71.
(6) انظر: ابن العبد، طرفة، (1900)، ديوان طرفة بن العبد البكري، شرح يوسف الأعلم الشنتريني، عناية: مكس سلغسون (شالَوْن على نهر سَوْن: مطبع برطرند)، 27- 32، 36، 44.
(7) للتفصيل في هذا يُنظر: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، (2014)، مفاتيح القصيدة الجاهليَّـة: نحو رؤية نقديَّـة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث).
(8) انظر: 5- 7.
(9) انظر: ابن أبي ربيعة، لبيد، (1962)، شرح ديوان لبيد، تح. إحسان عبّاس (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 297- 301.
(10) انظر: (1958)، ديوان امرئ القيس، تح. محمّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دارالمعارف)، 19- 23.
(11) انظر: 10- 24.
(12) انظر: 24- 26.
(13) انظر: 25- 26.
(14) انظر: (1950)، ديوان الأعشى الكبير، شرح: محمّد محمّد حسين (مصر: المطبعة النموذجية)، 59.


3/ 12/ 2013
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
 | 

....................................................................................................

* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 3 ديسمبر 2013، ص28.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/186534F2-E3BA-46A1-9605-9A60C7EAC3FE/P28.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=481931&date=03122013



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©