قال الراوي: يُحكى أن (هبنَّقة القيسي الليبرالي)، لمّا استوى على كرسيّه التنويري الدوّار، مساء الذكرى السنوية المئة والعشرين للنهضة العربيَّة العجيبة، أخذَ يمارس هوايته في تقليب الموازين على مرأى ومسمع من المحتفلين، وكان قد أضلّ صبيحة ذلك اليوم جميع بُعرانه:
- أ لم يَفْتِك «العرب» بـ(الهنود الحمر)، فتسبَّبوا في أكبر إبادة جماعيَّة في تاريخ البشريَّة، بذبح نحو 100 مليون نسمة، وفقدان أراضيهم، من سكَّان (أمريكا) الأصليِّين؟!
أ لم يَفْتِك «العرب» بـ(اليابان) في أفظع حادثة عرفها التاريخ البَشري وغير البَشري، في (هيروشيما) و(نجازاكي)؟!
تُرى مَن فعل بـ(الجزائر) «الغربيَّة» ما فعل؟ أ ليست (فرنسا) «العربيَّة»؟!
ومَن نكَّل بالشعب (الليبي) «الغربي»؟ أ ليست (إيطاليا) «العربيَّة»؟
أم هل ننسى معسكرات الاعتقال التي ابتدعتها قبيلة (الإنجليز) «العربيَّة»، أو محاكم التفتيش التي اقترفتها قبيلة (الإسبان) «العربيَّة»، أو سماحة قبيلة (البرتغاليِّين) المشهورة؟
كلّ هذا بسبب الثقافة «العربيَّة» المنحطَّة، الشرسة والوحشيَّة. فـ«العرب» ما انفكّوا في عدوانهم التوسُّعي، الطامع في خيرات الشعوب، وإزعاجاتهم لأولئك الغربيِّين المجبولين على التسامح السرمدي، والطِّيبة اللّا متناهية، والنظر إلى البَشَر سواسيةً، كأسنان الجرّافة! فـ«مَن أنا»، لأُنكر الحقائق؟ أجل، ما وراء بُعراني سوى العُربان!
فلم يتمالك (أبو قتادة)، الملقَّب بالإرهابي، نفسَه؛ فامتشق لسانه، و«صاحَ في العاشقين، يا لَكِنانة!»:
- بئس الخطاب المغالط خطابك، يا (ذا الوَدَعات)! كلّا، إن الغرب ليطغى، ومذ قال بفصل الدِّين عن الدولة، ومِن ثَمَّ عن السياسة، قال تلقائيًّا بدخول السياسة في كلّ شيء وشأن، حتى في ما ظاهره البحث العلمي البحت، ودراسة التاريخ واللغات والثقافات. مسخِّرًا كلّ الطاقات من أجل الوصول إلى غاياته في السيطرة على: الطبيعة، وعلى البَشَر، وعلى العقول، وعلى الثقافات، وعلى الحضارات، وعلى «الإبستيما»، أو البنية المعرفيَّة الكونيَّة؛ لاهتصارها جميعًا، واستخلاص ما يريد (هو) منها، وما يتماشى ومآربه (هو) ورؤاه، ونَفْي سواه، أو تذويبه، أو إلغائه، أو صرف أهله عنه، أو تجريمه وتجريمهم بسببه. أخرجَ الدِّين من الحياة من أحد الأبواب؛ لكي يُدخل السياسة في كلّ تفاصيل الحياة من كلّ البواب! ومن هنا فلعلّ مشروعًا كمشروع «الجيونيم القرآني»، أو «مشروع الماموت Mammut Project»، الذي بدأتْه المستشرقة الألمانيّة (إنجليكا نويفيرت Angelika Neuwirth)- وكَتَبَ عنه وعنها، جزاها الله خيرًا!، (خالص جلبي)(1)، والذي يهدف إلى تحليل كلّ ما يتعلَّق بـ(القرآن الكريم)، في بحثٍ يستمرّ إلى عام 2025- إنما هو مشروع استشراقيّ جديد، لفهم المسلمين، لا لفهم الإسلام، ولا لفهم القرآن. هو مشروع لمعرفة العرب والمسلمين أكثر، وأعمق، وأوضح، وأدقّ، وأنكَى، وأشدّ، وأدهَى، ومن ثَمَّ تفكيك نسيجهم الثقافي، ومن ثَمَّ معرفة أنجع السُّبل للسيطرة عليهم. وليس ذلك المشروع، إذن- كما يبدو، والألمان أعلم!- من أجل سواد عيوننا، أو سواد عيون المعرفة البريئة بقرآننا، والنزيهة من أيّ أغراضٍ «سِيَافِيَّة»، أي (سياسيَّة-ثقافيَّة). إلّا إنْ كان «جِنّ الألمان مثل جِنّ الجزيرة العربيَّة»، كما يشير الجلبي، الذين قال القرآن عنهم إنهم لمّا سمعوه انصرفوا، وقالوا لقومهم: «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فآمَنَّا بِه»!
- ماذا تقول، يا أبا قتادة؟ أَبِنْ.. أفصِحْ! الألمان، بالذات، نِعْمَ القوم هم!
- أدري أن هذا خطاب لا ينقصه سواد القلب، ولا سوء الظنّ، وأن ذلك ما سيراه فيه الطيِّبون، أو الساذجون، أو الذائبون في الآخَر! ولكن ماذا أفعل، إنها عيوننا التي في الرؤوس، وعقولنا التي لا تستطيع أن ترى البراءة في عينَي ذئب، وإن كحَّلها، ولوَّنها، وزجَّج حواجبها، وأطال أهدابها، لتظلَّ، رغم ذلك كلِّه، عينَي ذئبٍ كاسر! ..«يا عزيزي، مُرادي غير ما تَعْرِض عَلَيّ!»
والمنطق القلّاب للحقائق لديك ولدى بعض العرب اليوم هو منطق ما زال يجترّ تيّارًا فشا في بداية القرن العشرين. وقد انقرض ذلك مع الوعي بالغرب، وجفَّت منابع ذلك الانبهار، إلى حدٍّ ملحوظ. لكن هناك من لا يزال يغتذي على ذلك الفكر اليوم.
وإن أدلَّة سماحة الآخَر، الصليبي أو المتصهين، متكرِّرة متواترة وكثيرة، ومنها، مثالًا، تلك المظاهرات الحاشدة، من نحو عشرة آلاف شخص، في مدينة (نيويورك)، إبان مجازر (إسرائيل) في (غزّة)، التي نظَّمَها (اتحاد يو جي أي UJA)، ومجلس علاقات الجالية اليهوديّة في نيويورك، بالتعاون مع مؤتمر رؤساء المنظّمات اليهوديّة الأمريكيّة الكُبرَى، في 11 يناير 2009، والداعية إلى إبادة الفلسطينيِّين.. هكذا، وبوضوح! مبتهجةً، في طقوسٍ غنائيّةٍ صاخبة، بتلك العمليّات الإجراميَّة للقضاء على النساء والأطفال العرب. وسط ذهول المراسلين الإعلاميِّين- ومنهم ناقل التقرير المتلفز (ماكس بلومنثال Max Blumenthal)، والمنشور على موقع «ألترنت www.alternet.org»- وذلك للغة الكراهيّة، غير المستساغة حتى في أحضان مَواليهم، وللحِقد الطافح الذي ساد التظاهرة، التي حَمَل بعض أفرادها لافتة تعلن أن «الإسلام= دِين فَناء»، وأن شعب غزّة سرطان لا بُدّ أن يُجتثّ، في حين قال بعضهم: إن إسرائيل مضطرّة لقتل الأطفال العرب للدفاع عن أطفالها! بل إن الذين يموتون في غزّة- بحسب قول أحدهم- إنما هم «ضحايا غضب الربّ»! هكذا: «ضحايا غضب الربّ»! ولا ندري أيّ ربٍّ كانوا يعنون؟ أ هو (جورج دبليو بوش)، ربّ الخورنق والسدير، في حينه؟ ولا جَرَمَ أن الحبل السريّ بين أمريكا وإسرائيل أهمّ من الحبل السريّ بين الأمّ وجنينها. أم هو ربّ بني إسرائيل القديم؟ فأربابهم كُثْر دائمًا! وكثيرًا ما تتشابه البقر عليهم!
في عملها القصصي، تُعرِّي الكاتبةُ والباحثةُ الفلسطينيّة (وفاء أبو شميس)- المحاضِرة بـ(جامعة النجاح الوطنيّة بنابلس)- عبوديَّةَ جنود الربّ-- كما درجوا على تسمية مؤسَّستهم العسكريّة عبر التاريخ-- لربٍّ قَتُوْلٍ، يأمر بتقديم الأطفال والنساء والشيوخ قرابين في عيدٍ لا نهاية له، وذلك من خلال قِصَّتها الواقعيَّة، الرائعة سردًا، المروِّعة مضمونًا، بعنوان «في بيتي جنود Soldiers in My House». وقد جاء هذا العمل المأساويّ مزوَّدًا بالصُّوَر والتعليقات والمعلومات الوثائقيَّة. مختتمًا بقصيدة للشاعر (توفيق زياد)، بعنوان «باقون نحن هنا!». ومزيَّة هذا الإنجاز القيِّم الإضافيَّة أنه باللغة الإنجليزيَّة، وأن كاتبته على صلةٍ بلغة الآخَر وثقافته، ولا سيما الآخَر الناطق بالإنجليزيَّة، وبالإمبرياليَّة المتصهينة.(2) على أن ما صوَّرَتْه أبو شميس في قِصَّتها من مأساة الأُسرة الفلسطينيّة تحت نير الاحتلال وعسفه وظُلمه وتوحُّشه، ليس بغريب على مَن قرأ تاريخ بني إسرائيل، كما دوَّنوه هم، لا كما ادّعاه عليهم أحدٌ، أو جمعه سواهم، وليس في أيّ كتاب تاريخيّ، بل في أقدس مراجعهم وكتبهم الدِّينية، إنْ في (العهد القديم) و(التَّلمود) أو في غيرهما. كما ليس ببدع ما تصوِّره قِصَّة «في بيتي جنود» من عقيدة الصهاينة المعاصرين، فها هو ذا (الراب مينز فردمان)، الحاخام البارز في حركة (ليبوفتش حباد)، الذي اشتهر بأحاديثه الشعبيَّة المحبَّبة لدى اليهود عن الله وعن الحُبّ، عندما سُئل من قِبَل مجلة «اللحظة»، في باب «اسأل الراب» عن رأيه في معاملة الجيران العرب، قال: «إن الطريق الوحيد لحربٍ نزيهةٍ على الطريقة اليهوديَّة، هي تدمير مقدَّسات العرب، وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم ومواشيهم! فإذا فعلتْ إسرائيلُ ذلك فإنها ستتجنَّب الخسائر، ولا تعرِّض أطفالها للخطر. وأنا لا أؤمن بالحكمة الغربيَّة التي تقول: إن الحياة الصحيحة وَفق قِيَم التوراة تجعلنا رحماء نحو الأُمم الضعيفة».(3) فهؤلاء، إذن، هم أحفاد الهولوكوست المساكين، المستعينين بأربابهم، الذين تفيض قلوبهم بالمودَّة والرحمة، ولا يعرف الإرهاب إلى قلوبهم سبيلًا! لكن ما الجديد في ذلك لدى من يعتقدون أنهم أبناء الله وأحبّاؤه وشعبه المختار؟! وتلك عيِّنات فقط من الحنان الفائض والروحانيَّة الإنسانيَّة التي تسود بعض الثقافات الأخرى، عدا الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة، كما يرى بعض تنويريِّينا، كهبنَّقة الليبرالي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مجلّة «المجلّة»، عدد 6- 12 صفر 1430هـ= 1- 7 فبراير 2009م، ص69.
(2) Abu Shamais, Wafa, (2004), Soldiers in My House, Edited by Nancy Horn, Commentary and additional information by Laura Dawn Lewis (Nablus- Palestine: Public Relation Department, An-Najah National University).
(3) «هارتس»، 9/ 6/ 2009، ترجمة: توفيق أبو شومر، موقع: (أريج الثقافات).
7/ 3/ 2014
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|