-1-
من نكد الدنيا الطريف أن ترى العنصريّ الأبيض- الذي كان بالأمس يستعبد السود، وينظّر لتفوّق الجنس الآريّ الأبيض، وأن السود أو الملوّنين عمومًا أقرب إلى مستوى الحيوان منهم إلى الإنسان، بحسب تلك الأفكار التي روّج لها الظهير الاستعماري من المستشرقين، أمثال (رِنان Renan)(1)، أو (أندريه سيرفيه André Servier) في دراسته بعنوان «الإسلام وسيكلوجيّة المسلمين»،1923(2)- أن ترى ذلكم العنصريّ الأبيض آتيًا اليوم ليُنظِّر للقول: إن أصل البشرية من قرود أفريقية؛ لأن أقدم جمجمة بشرية عثر عليها حتى الآن كانت في (أثيوبيا)؛ ومن ثم فكل البشر أفارقة! وهذا، استطرادًا، يتماشى- لدينا في اللغة العربية- مع تسمية (آدم) بهذا الاسم؛ فـ«الأُدمة في الناس شَرْبةٌ من سَواد... وأَدَمَة الأرض: وَجهُها، وقيل: سُمِّيَ آدَمَ- عليه السلام- لأنّه خُلِقَ من أَدَمة الأرض، وقيل: بل من أَدَمةٍ جُعلت فيه.»(3) و«الأُدْمَةُ: السُّمرةُ. والآدَمُ من الناس: الأَسْمَرُ... والأُدْمة في الإِبل: البياض مع سواد المُقْلَتَيْن، قال: وهي في الناس السُّمرة الشديدة... وبه سمي آدم أَبو البَشَر.»(4) وإذن، فآدم تعني: الأسود، أو الأسمر، أو «الأفريقي»، بحسب نظريّة الأصل الأفريقي المشار إليها. وكذا: حوّاء من الحُوّة، وهي: السُّمرة. هذا، وإن لم يتّضح كيف يمكن الزعم أن أفريقيا- كما نعرفها اليوم- كانت كذلك منذ الأزل؟ ومن يدري كيف كان التقسيم القاري القديم؟ وهل كان هناك أصلًا ما يمكن تسميته بقارة أفريقيا، وآسيا، وأوربا.. إلخ؟ فالطبيبة والباحثة الأنثروبولجيّة (أليس روبرتس) في فيلمها الوثائقي حول هجرة البشر المنحدرين من سلالة (الهومو سابيان) في أفريقيا(5)، تفترض أن البحار والمحيطات والخلجان كانت- إلى حدّ كبير- في أماكنها نفسها، كما هي اليوم، ومنذ الأزل، وإن أشارت إلى بعض الاختلافات الطفيفة، التي تكاد لا تتغير معها خارطة العالم، إلا في نطاق ضيّق، مثل ضحالة البحر الأحمر، ولاسيما من جهة باب المندب، وهو مما أتاح للأسلاف الأفارقة أن يَخْطُو شرقًا، ومثل منطقة الخليج وشرق الجزيرة العربيّة، التي كانت بلا خليج أصلًا، بل كانت واحات غنّاء، فيها مروج ذات بهجة وبحيرات وأنهار.
-2-
وإذا كانت تلك هي تأرجحات المخاضات الغربية بين نظرية التطوّر من جهة وعنصريات التطوّر من جهة أخرى، ففي مقابلها يأتي من فرضيّات المستلَب في عالمنا العربي- المنكوب بأبنائه- ما هو أدهى وأمرّ. وإلا فلك أن تطرح تساؤلات مقلوبة، في ضربٍ ممّا اصطلح عليه البلاغيّون العرب بـ«تجاهل العارف»- وبضدّها تتبيّن الأشياء- على النحو الآتي مثلًا:
أ ولم تكن النازيّة، والصهيونيّة، والآريّة، والبيض والسود، وكل الحركات والمبادئ العنصرية التدميريّة التي صُدّرت إلى العالم، هي نتاج «الحضارة العربيّة»، ووليدة الثقافة الأفريقية، أو الشرقية، ولا سيما الإسلاميّة، الإرهابيّة المتطرّفة، وإفرازًا للقَبَليّة العربيّة بعاداتها وتقاليدها المقيتة؟!
أ لم يحتلّ «العرب» (باريس)، وينكّلوا بأهلها؟! ولقد روى (الجبرتي) في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» عن الحملة العربيّة على (باريس) و(فرنسا) عامّة ما تشيب له الولدان. ومن ذلك تلك الطريقة الوحشيّة لإعدام (سليمان الحلبي)، الذي ظلّت جمجمته في أحد متاحف باريس، مكتوبًا تحتها: «جمجمة مجرم»! وهو شهيد المقاومة الذي أطاح بـ(كليبر) نائب (نابليون بونابرت) في حملته على (مصر). ولنترك الحكاية للكاتبة الحلبيّة (بيانكا ماضيّة)، كما ضمّنتها في رواية لها بعنوان «هو في الذّاكرة»(6)، حيث يرد:
«ها هو سليمان الحلبي على تل العقارب حيث القلعة التي بناها الفرنسيون في القاهرة، يتقدم في جَلَد ويمد يده داخل الجمر متمتمًا بآيات من القرآن الكريم، وتنزلق جمرة على مرفقه، فينبهه (بارتليمو) الذي تولى تنفيذ الحكم، إلى أن الحكم لا يشمل المرفق فيطالبه برفعه، لكن سليمان يرفض ويصر على حقوقه إلى أن ترفع الجمرة... تتفحم كف سليمان وهو على صمته وجَلَده. إجراءات إعدام سليمان بالخازوق يمارسها بارتليمو في تشفٍّ؛ ليرضي ساديته وأسياده، يُرفع سليمان عن الأرض على الخازوق، فيطلب شربة ماء، يتقدم جندي فرنسي بقربة، فيسرع بارتليمو لإزاحة القربة، فأقل شربة ماء تؤدي لوفاة سليمان فورًا، وتحرم بارتليمو من ممارسة هوايته.. وظل سليمان يردّد آيات من القرآن الكريم مرفوعًا رأسه إلى أن فاضت روحه. أمّا الرفاق الفلسطينيون الأربعة، الذين حوكموا أيضًا لعدم إخبار السلطات الفرنسية بما نوى عليه سليمان، فقد تم إعدامهم أمام عينيه قبل إعدامه، وحُرقت أجسادهم حتى التفحم... بعد إعدام سليمان الحلبي حزّ الفرنسيون رأسه ليحملوه معهم إلى فرنسا، وليتم عرضه على طلبة الطب سعيًا إلى تمكينهم- حسب زعمهم- من رؤية علامة الجريمة والتعصّب في جمجمته، قبل أن تنتهي إلى أحد متاحف باريس.»
-3-
ثم بعد ذلك التاريخ الاستعماري الحنون، أ لم يمتص العرب دماء الغرب اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وما بقي أهرقوه كي يرضَى الربّ عن جنوده الأبرار؟!
كيف ننسى التاريخ «العربي»، العنصري، واللا إنساني؟!
كيف نتعامى عن هذا، ونصوّب بنادق نقدنا الظالم إلى بعض ما في مناهج الغرب «الغلبان» من مضامين لا تتماشى مع فكرة التعايش بين القاتل والمقتول، ولا تراعي واجب المحبّة بين السكّين الحضاريّ- السلس الشفرة، التي تقطع كالماء محزّات المفاصل، الجميل النِّصاب- وبين حَبلَي وريد الضحيّة النافرين، الخارجين عن الوئام الدوليّ المطلوب بين أيّ جزّار ونعجة؟! أ لم يقل الإسرائيليون إنما أطفال غَزَّة «ضحايا غضب الرب»؟! أ لم نر جنود الرب هذا وهم يَتْلُوْن توراتهم بمنتهى الخشوع أمام دبّاباتهم الجاهزة لتنفيذ أوامر ربّهم بالقتل والتدمير، مُنغِضين رؤوسهم بالتبتل والصلاة؟! بل إن ألوان عَلَمهم الأزرق السماوي ما هي إلّا دعوة إلى صلاة الفَجْر على وقتها، حينما يتبيّن اللون الأبيض من السماوي، كما يذهب (أستاذنا الدكتور حسن ظاظا)، عليه رحمة الله، في إحدى محاضراته(7).
...«ورأيت- يا درويش- إلى نفسك في المطار التالي شخصًا غير مرغوبٍ فيه، لافتقار الوثائق إلى فِقْهِ الربط بين الجُغرافيا وأسمائها: فمَنْ وُلِدَ في بلدٍ لا يُوجد.. لا يوجد هو أيضًا. وإن قلتَ مجازًا- يا فلسطينيّ- إنك من لا مكان، قيل لك: لا مكان للا مكان هناك. وإن قلت له، لموظّف الجوازات: اللا مكان هو المنفى، أجابك: لا وقت لدينا للبلاغة.. فاذهب إذا كنت تحبُّ البلاغة إلى لا مكان آخر!... ورأيتَ إلى نفسك في شريط سينمائيّ طويل تروي على رسلك ما حلَّ بأهلك مسروقي اللسان، والقمح والبيت والبرهان... منذ هَبَطَتْ عليهم جرّافة التاريخ العملاقة وجرفتهم من مكانهم وسوَّت المكان على مقاس أسطورة مدجّجة بالسلاح والمقدّس.»(8)
وجنود إسرائيل ليسوا كأيّ جنود، بل ليسوا كأيّ بشر، بل هم جنود الربّ مباشرةً، لهم قداستهم التي تعلو ولا يُعلى عليها من أي قوانين أُمميّة أو قوانين إنسانيّة أو معاهدات دوليّة أو حقوق؛ فالإنسان غير اليهودي لا يُعَدّ شيئًا في موازنة الدم اليهوديّ السامي المقدّس!
كما أن الله لدى اليهود لهم، وحدهم، لا شريك لهم!
وهم شعب الله المختار، وأبناؤه وأحبّاؤه، وحدهم لا شريك لهم!
وكذا التحضُّر السماوي الأرضي، وإلّا فلا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يُنظر: علي، جواد، (1973)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (بيروت: دار العلم للملايين)، 1: 168.
(2) يمكن الاطّلاع على الكتاب عبر هذا الرابط:
http://musulmanbook.blogspot.com/2005/11/preface-mind-of-musulman.html
(3) الفراهيدي، معجم العين، (أدم).
(4) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (أدم).
(5) الفيلم في حلقات بثّتها الـ«بـي بي سي»، أولاها على رابط «اليوتيوب» التالي، (وبالإمكان متابعة ثنتي عشرة حلقة من هناك):
http://www.youtube.com/watch?v=6FAdlUyHEv0
(6) (2010)، (حلب: دار عبدالمنعم)، 34- 35.
(7) تابع المحاضرة على موقع «اليوتيوب»، ضِمن ندوات الأحد التي يقيمها (الأستاذ الدكتور راشد المبارك):
http://www.youtube.com/watch?v=--K8nGkaNiQ
(8) درويش، محمود، (2006)، في حضرة الغياب (نَصّ)، (بيروت: رياض الريس)، 53- 54.
14/ 5/ 2014
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الأربعاء 14 مايو 2014، ص30.
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=504149
http://www.alraimedia.com/UI/PDF.aspx?i=12735&p=30
|