-1-
ما دام الخالق موجودًا، فهذا يقتضي أنه معنيٌّ بمن خلق، معنيٌّ بأن يُرسل إليهم رسولًا، يبيّن لهم، ويجيب عن تساؤلاتهم. من قال غير ذلك، فما قَدَرَ اللهَ حقَّ قَدره. وهو ما أشارت الآيات القرآنيّة إليه. وإن آية صدق أنبياء الله أنهم نُصِروا وأُيِّدوا، وانتشرت دياناتهم في البشريّة كافَّة، شرقًا وغربًا، كما لم تُفلِح أيَّةُ دعوةٍ أو نظريّةٍ في التاريخ أن تفعل، ومهما أوتيتْ من قوّة ونفوذ وسُلطان. فما معنى هذا؟ معناه أنها حقٌّ، وإلّا فأيّ مَلِكٍ يسمح بأن يعبث أحد باسمه، وأن يعيث في مُلكه، دون أن يتدخّل؟! بل أكثر من ذلك، هو يُوفِّق ويُمِدّ بالعون والتأييد؟! أي مَلِكٍ خائبٍ يقع في حِماه مثل ذلك فيسكت عنه، بل ينصر المفترين عليه وعلى خَلقه؟! تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا!
إن منطق اللا دِينيّ، كمنطق الملحِد، بلا منطق. وإنْ جاء يعتزّ بعقلانيّته، فبايّ عقلٍ يهرف أو عقلانيَّة؟! ليس العقل ما يحدو هؤلاء، إنما هوى النفس، وعاطفة التخفّف من المسؤوليّات، والتنصّل من الالتزامات المترتّبة على الإيمان، كلّ أولئك تزيّن لأصاحبها الكذب على أنفسهم. فترى أحدهم يُنفق عمره في الجدال وتأليف الكتب؛ وهو إنما يفعل ذلك لكي يُقنع نفسه بنفسه، ولكي يُسكِت ضميره المضطرم، بل ليُسكِت إشارات عقله، التي لا تكفّ عن إيماضها بأن ثمَّة حقيقة ما هنالك. غير أن أصوليِّي التطوريّين يتعبّدون (داروين) بفرضيّته في التطوّر؛ وما زالوا يؤمنون بتراث القرن التاسع عشر، وإن نُقضتْ (لوسي) الشنمبانزيّة، 1974، بأردي ARDI- أو "المرأة الأرضيّة"، التي تسير على قدميها على الأرض- والتي اكتشفت في صحراء (عفار الأثيوبيَّة)، 1994، وتعود إلى أربعة ملايين وأربع مئة ألف سنة. كلّا، إن القوم مصرّون على شنمبانزيّتهم. ولا يستفزّهم من شيء كما يستفزّهم أيّ طعنٍ في نبيّهم- البيولوجي الهاوي- داروين ونظريّته، حتى لو جاء طعنًا علميًّا من غير الهُواة. بل إنه لو بُعِث داروين نفسه، فتراجع عن فرضيّة التطوّر، لكُبْكِبوا على رؤوسهم إصرارًا عليها، وتمسّكًا بها، وجهادًا في سبيلها؛ لا لأن غايتهم الحقّ والبحث الجادّ عن الحقيقة العِلميّة، لكن لأنها تُحقِّق لهم هوى أنفسهم في المكابرة ونفي الإله، وإنكار أصل الخلق الوارد في الأديان، مع أن نبيَّهم الهاوي كان مؤمنًا! إنما هو الهوى حين يتحوّل إلى عقيدةٍ معقّدة، تُعمي وتُصِم.
على أن الله سبحانه ليس في حاجة إلى عبوديَّة الخَلق أصلًا، ولا ينفعه إيمانهم، ولا يضيره كفرهم. لا يأبه لاتّباعهم ولا لضلالهم، فهو الغني الحميد، لكنه لا يرضَى لهم الكفر والضلال، إشفاقًا. هو القائل في المستوى الاعتقادي: «فَمَن شَاء، فَلْيُؤْمِن، ومَن شَاء، فَلْيَكْفُر»، [الكهف: 29]، وفي المستوى السلوكي والأخلاقي: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ، إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، [فصلت : 40]. وإنما بعثَ الرسلَ مذكِّرين ومنذرين بما يُقيم أود الإنسان، ويُصلح باله، ويُحيي مواته، وشرع الشرائع لمصلحة الإنسان نفسه، ولتنظيم حياته، ورفع الظلم عنه، وتحريره من أغلاله، النفسيَّة والجمعيَّة والكونيَّة. ولكنّ الإنسان يظلّ ظلومًا لنفسه جهولًا، وإنْ باسم العِلم والعلمانيَّة.
-2-
وإن هذا التيّار الصارخ في بريَّة عصرنا لَمتشجِّـرٌ في نماذج متفرّقة متفاوتة. ولقد أصبح معظمها مقبولًا جدًّا، ورائجًا كثيرًا، بل راح يَظهر في عناوين على النباهة والوعي والتنوير في عالمنا العربي. وبضدّها إنما يهرف المتخلِّفون والرجعيُّون في كلّ مكانٍ وزمان!
ويَردُف الإلحادَ بالله الإلحادُ بالأوطان، والقِيَم، والانتماءات. حتى بات من نباهة «التنويريّ» العربيّ الحديث أن يكون تبعًا لمقولات المستشرقين المُغرضين ضدّ العرب والمسلمين على طول الخط، أو على عرضه في الأقل، إنْ قعدتْ به مهاراته وكانت وقاحاته أقل. وإنْ كان فيه تديُّن، ولا مجال لتخلّصه منه بالكُلِّيَّة، فليكن تديُّنًا كَنَسيًّا؛ أي أن يؤمن بعزل الدِّين كُلِّيًّا عن الحياة، وَفق الفكر الكَنَسي المعاصر، الذي لا علاقة له بالفكر الإسلامي والفلسفة الإسلاميّة، وإنما يحاول قولبة الشرائع والثقافات والشعوب على غراره. ولا بدّ لتنويريِّنا أيضًا أن يكون مع نُكران الغرب المديد للحضارة العربيّة والإسلاميّة، الذي سطا على فروعها قبل أصولها عبر التاريخ، ومع عَزْوِه كلّ بِنَى الحضارة الإنسانيّة قديمًا وحديثًا إلى الغرب السارق، وتجسير الفجوة بين الإغريق والغرب الحديث، هكذا نكرانًا، ونفيًا، وإرصادًا لمحو التاريخ، لإخفاء آثار الجريمة الحضاريّة المتمثّلة في سرقة المِلْكيّة العِلْميّة والفِكريّة والفنيَّة. ذلك أن هؤلاء القوم لم يسرقوا الأوطان ومواطنيها، أو يناصروا على ذلك، إلّا بعد أن سرقوا تراث الأوطان ومواطنيها، المعرفي والفكري والفنّي، ثم أنكروه جميعًا، بل ادّعوه لأنفسهم. ولولا ذلك لاستعصت الأوطان عن الاحتلال، كما حدث في محاولات على شعوب أخرى، أبرزها اليابان؛ الذي تأبَّى على الترويض الغربي الماسخ، وعلى سرقة الهويّة والشخصيّة والتراث، فصمد في وجه ذلك التيّار الجارف، ترابًا وتراثًا وثقافة. غير أن الشرق العربيّ، للحقيقة، كان هدفًا استراتيجيًّا غربيًّا بما لا يقارن بغيره من الأوطان؛ لعداوات تاريخيّة لا تَخفَى، وعوامل دينيَّة وسياسيّة كبرى، ومطامع اقتصاديّة عظمى، في ما تحت التراب وما فوقه. وكان من حُسن طالع الغرب أن العربي يُظهر غالبًا استجابة رائعة للانقياد، بل للقيام بواجبه الخياني على أكمل وجه. لا، بل هو متفوّق في ذلك على أساتيذه، بشواهد عريقة على ذلك، عتيقة وحَيَّة. وهو لفطنته لا يحتاج إلى مَدرسة أو مدرّسين، ولا إلى انتماء رسميّ أو حزبيّ، ولا حتى إلى توجيهات مباشرة أو غير مباشرة؛ لأنه يفهمها إيحائيًّا، «وهي طائرة»! كيف لا وهو الشاعر، اللمّاح، الفطِن؟! فإذا هو، لمَلَكاته الخارقة تلك، يعمل تلقائيًّا، من حيث يدري أو لا يدري، في خدمة «الأجندات» الزرقاء والحمراء، سداسيّةً أو مستطيلة. فإنْ لم يفعل، وهو سيفعل، فقلبه رهين الإغراءات، وهو بطبعه الشاعري ضعيف النفس أمامها جِدًّا، لا يُقاوِم وهجها، إنْ توهّجت، ولا دفئها الحريري، إنْ جَنَّه الليل.
بيد أن هذا التابعي «التنويري» الرقيق ما لم يُظهر الولاء الإديولوجي المطلق لكلّ الخطاب العدوّ، وما لم يُظهر التنكّر التامّ والمستميت لماضيه وتراثه وإسهام أُمّته في كتاب الحضارة العالميّ؛ ما لم يصطفّ ذليلًا متبتِّلًا مع كل رائحةٍ تهبّ من تلقاء قِبلته الحَمِئَة، وضدّ كلّ الأنفاس الوطنيّة والعربيّة والإسلاميّة الأصيلة، فهو لا يستحقّ شرف التاج التنويري، ولا الانتماء للنادي الرفيع لطَليعيّي العربان المحدثين! إن عليه أن يغتسل جيِّدًا بحليب النار، وأن يغسل دماغه بديتول يعقِّم من كلّ فيروسات الوعي، ولو استطاع أن يغيِّر ملامح سحنته، ولون بشرته وشَعره، فحبّذا ذلك حبّذا؛ كيما يكون عضوًا مثاليًّا في حزب الأعراب الجُدد، حزب اللا انتماء واللا هويّة واللا كرامة. مَن لم يستطع ذلك، وعلى الصُّعُد كافّة، فتَعْسًا له، ليس بكفؤ للتحلّي بنعت الحداثي، أو التنويري، أو المفكّر، أو الفيلسوف. وأَمامنا ووراءنا حملات حثيثة من أجل ذلك، منذ الاستعمار الغربي لأوطاننا، واستعبادها، عبر التعليم والإعلام والثقافة والفكر لإنتاج أجيال من الدُّمَى تقوم بهذه الوظيفة في أوطانها. وكما صنع الاستعمارُ الغربيُّ الغازي «مستعمِرَنا الوطنيَّ»- على حدّ تعبير الشاعر (عبدالله البردّوني)- صنع كذلك «مستشرقَنا العربيَّ»، من خادم للمصباح الأنجلوسكسوني وخادم لشقيقه الفرانكفوني. أمّا مَن تأذّى من هذا الواقع، أو استيقظ عقله ونبا ضميره، فـ«متخلِّف»: كلمة كفيلة بوَقْصه. ومَن استصرخ لآفةٍ من تلك الآفات الاستئصاليَّة، فامرؤ عاطفيّ؛ إذ على المذبوح هنا أن لا يعترض على سلخه، وأن يكون موضوعيًّا، لا عاطفيًّا! كيف وقد أصبحت العواطف معيبة، ولَبئس الملاذ للعالَمين! كذلك هي اليوم لدى من فقدوا مشاعرهم وقِيَمهم وانتماءاتهم. على الناس التزام الصمت، ومَن أَلِم، منصوح بالسكوت؛ حتى لا يُنْبَز بأنه صاحب خطاب شعاراتي عاطفي، ومَن سكتَ أو غطّ في سُباته، فلا يحاولنّ مستيقظٌ إيقاظه، وإلّا اتّهم بالقذف والتخوين! فالنائم مرفوع عنه القلم، بل ما هو إلّا حكيم يغطّ في موضوعيّته، والساكت عنه حليمٌ أوّاهٌ مُنيب! وماذا تصنع العواطف؟ سؤالٌ عروبيٌّ بات يتردّد، مع أن العالَم من حولنا يمور بعواطفه، ويحاربنا بعواطفه. والثورات العظمى، التي غيَّرت مجرى التاريخ، كانت بفعل عواطف جيّاشة، حرّكت الأُمم والشعوب. ولقد تحدث (ابن خلدون) عن أهميَّة العواطف القوميَّة والدينيَّة في تلاحم الأُمم وفعاليّاتها وحراكها. لكن هكذا يُراد أن يتجرّد العربي من عواطفه، وحوافزه وآماله، ومن أسباب ثقته بربّه وحضارته وحقّه، ومن ركائز معنويّاته النفسيّة والقوميّة؛ فهي لم تفده، ولن تفيد! هكذا يُراد للهزيمة أن تمسي مكوّنًا داخليًا في النفس العربيّة.
إنه خطاب يدلِّس الحقائق، يتردَّد في بعض إعلامنا في شِبه غسيلٍ دماغيٍّ يوميّ، لقتل الحوافز الإنسانيَّة، باسم الموضوعيّة وانتظار ما ستسفر عنه (خطّة غاندي وعنزه)! ويا ليت لدينا عقلانيَّة موضوعيَّة تُنتج حقًّا وتبني، لكنها عقلانيَّة وموضوعيَّة لا تتجلَّى عبقريّاتهما الإعلاميّة إلّا في التثبيط، والتخذيل، وجلد الذات والأقارب، وتمجيد الآخَر، إلى درجة التأليه. عقلانيَّة عربيَّة وموضوعيَّة مزعومتان، لا تريان إلّا هواهما، تتحيّنان الفُرص لنفث ما كانت تُخفي صدورهما في ظروفٍ غير مواتية. لذا لا عجب أن تغيب دعوى العقلانيَّة والموضوعيَّة حينما تتعارضان مع المذهب الليبرالي العربي ومصالحه. وهو مذهب ذهب مع رياح الربيع العربي، فاقدًا احترام كلّ ذي عقلٍ بشريّ وموضوعيَّة حضاريَّة، لتلك المواقف غير الليبراليّة التي تجلّت من بعض أدعياء اللبرلة؛ والتي كشفت عن محض صبيانيّة وعدم نزاهة ولا إنسانية، وأنها توجُّهٌ لا يعدو فِكرًا متطرِّفًا هو الآخر، أبعد ما يكون عن لغةِ حُريَّةٍ، ومنطق عقلٍ، ونهجٍ موضوعيٍّ قويم. إنه لا يختلف عن غيره إلّا في الوُجهة والعقيدة المعتنقة، يرسف في دوغمائيّته وعماه ومرض قلبه، مثل سواه من أبناء أرومته. مختصر القضيّة لديه أنه آخذٌ المسألة مسألة مزايدة قَبَلِيَّة لا أكثر، وراكبٌ لأجلها عَنْزَهُ الطائرةَ في الاتجاه الذي اختار، أو اختير له. أعمى البصر والبصيرة؛ من حيث إن معظم الليبراليِّين العرب لم يتلبرلوا أساسًا إلّا عن عُقَـد نفسيَّة أو اجتماعيَّة أو ثقافيَّة، تأخذ بنواصيهم والأقدام، لا عن اختيارات فكريَّة أو اقتناعات معرفيَّة، تتمتّع بشجاعة الاستقلال والحُريَّة والمبدأ؛ لأنهم بدورهم ضحايا واقعٍ مريضٍ من أخمص قدميه حتى قُلَّة رأسه، أفرزَ تشوّهاتهم كما فعل بغيرهم، في وباءٍ وراثيٍّ عتيق.
15/ 8/ 2014
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 12 أغسطس 2014، ص20.
http://www.alraimedia.com/UI/PDF.aspx?i=12825&p=20
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=522894
|