لقد كان (كمال الصليبي) يعلم عِلم اليقين أن قد فشل المؤرخون في العالم والآثاريّون في العثور على التاريخ المزعوم لبني إسرائيل في فلسطين. فلتكن فلسطين- بحسب الصليبي- (الفَلَسَة) في (خَثْعَم)!(1) أ فوُكِّل للبحث لهم عن تاريخهم في مكان آخر، هو جزيرة العرب؟ أم نَدَب نفسه بنفسه إلى هذه المهمَّة؟! لينتهي في آخر المطاف إلى نسيجٍ مهلهلٍ من الفرضيَّات والتخمينات، في ضربٍ من التنجيم، مستخدمًا مع القارئ ما يشبه تأثير (بارنوم)(2)، ليُوهِم بصحّة ما يقول. حتى إنك لتشعر في تحليلاته كأنك أمام قارئ فنجان، لا أمام مؤرِّخ. وللرجل قُدرة لا تُنكَر في ممارسة هذا الدور الإيهامي، حتى إذا فُحِص كلامه على محكّ الواقع والتاريخ والمنهج، وُجِد معظمه ممَّا لا يُمكن الاعتداد به عقلًا، فضلًا عن الاعتداد به عِلْمًا.
إننا- بقطع النظر عن صحَّة القول بتاريخٍ (لبني إسرائيل) في (شِبه الجزيرة العربيَّة)- إنما نُقيم مناقشاتنا لكُتب (الصليبي) على أساسٍ من الحِجاج المنهاجي؛ من حيث كان الرجل يبني استنتاجاته إمَّا على أوهام، أو على أغلاط، أو على مغالطات. وفي أحسن أحواله يبنيها على ما يحتمل غير وُجهةٍ واحدةٍ، ممّا لا يُبقي لافتراضاته جدارتها بأن تُعَدَّ الاحتمال الوحيد. نحن لا يعنينا نفي تاريخٍ مزعوم لبني إسرائيل في الجزيرة، بل يعنينا المنهاج المتَّبع لإثبات ذلك. فأنْ يأتي باحثٌ لنقض ما تواتر تاريخيًّا، ثمّ لا يُزلف بين يدَي دعواه سوى عرضٍ شاعريٍّ، ينهض على أصداء الحروف والأسماء، فذاك هو الإفلاس المبين. وهي هاويةٌ من الضعف ظلَّ المؤلِّف نفسه قلقًا حيالها، غير أنه كان يُلقي هواجس قلقه على احتمالاتٍ مستقبليَّة سوف تُثبت مقولاته آثاريًّا. لكأنه كان يبحث تاريخ قبيلةٍ في الصحراء، لا تاريخ ممالك ومُدن وحضارات دينيَّة، لم تستطع الصحراء حتى اليوم ابتلاع ما هو أقلّ منها شأوًا.
من مزاعم الرجل أنه جاءنا ليقول عن (عَبيد سليمان): إن «بني عبدي شلمة، أي بنو عبدي (م) شلمة، قبيلة تعود أصولها إلى ما هو اليوم قرية آل عبدان (عبدن) في ناحية فيفا في منطقة جيزان، وهذه القرية معرفة توراتيًّا بالنسبة إلى قرية من الناحية ذاتها اسمها (آل سلمان يحيى) واسم سلمان أو سليمان تعريب للاسم التوراتي «شلمه»، وقد عُرِّفت آل عبدان هذه بأنها «عبدان سلمان» لتمييزها عن موقع من ناحية بني الغازي من منطقة جيزان اسمه أيضًا عبدان. وهذه كانت مواطن هذه القبيلة في مختلف المناطق:...»(3). ثم أورد أماكن في (نجران)، و(بلَّسمر)، و(القنفذة)، و(الطائف)، و(قنا والبحر)، وغيرها.
ولك أن تسأل: أ لم يقل: إن هؤلاء (بني عبدان) «قبيلة تعود أصولها إلى ما هو اليوم قرية آل عبدان (عبدن) في ناحية فيفا»؟! فكيف صارت مواطنهم في (نجران)، و(بلَّسمر)، و(القنفذة)، و(الطائف)، و(قنا والبحر)؟!
ثم أين هناك في جبال (فَيْفاء) مكان اسمه (قرية آل عبدان)، أو (عبدن)؟!
ليس هناك مكان بهذا الاسم الذي زعمه (الصليبي). إنما هناك: فخذ قبيلة اسمه (آل عبدان)، وآخر اسمه (آل سلمان بن يحيى)، من قبيلة (آل سلمان) بفَيْفاء، وشيخها (يحيى بن عيدان السلماني). والفخذان، بقبيلتهما، من متأخِّري البَشر جدًّا، لا يعودان إلى ثلاثة آلاف سنة، ولا حتى إلى ألفٍ من السنين.
وهو كما ترى يقول: «في ناحية فيفا»! لكي لا تدري أيّة ناحيةٍ؛ لأنه نفسه لا يدري.
إن قبيلة (آل سلمان) التي ينتمي إليها هذا الفخذان- اللذان جعلهما (الصليبي) قريتَين من عهد الملك سليمان- هي إحدى قبائل (آل شريف)، من (آل المُغامر)، من (آل عبيد بن أحمد). وبذا فإن جدّ جدّ جدّ جدّ هذين الفخذين، أي (عبيد بن أحمد)، لا يرقى وجوده إلّا إلى نحو ألفٍ من السنين. فكيف يُتصوّر وجود أحفاد أحفاده، وقيام تسميات عشائرهم ومواطنهم، منذ عهد (سليمان بن داوود)؟
أمّا استعمال اسم سلمان، وسليمان، وسالم، وسلامة، فحدِّث ولا حرج عن انتشارها في جبال (فَيْفاء). وكذا إبراهيم، وموسى، وعيسى، ويحيى، وداوود، وجميع أسماء أنبياء (بني إسرائيل) تقريبًا. أم لعلَّه سيستدلّ لنا بذلك أيضًا على تاريخٍ إسرائيليٍّ عريقٍ بناءً على وجود أسماء الناس تلك؟! هو لا يتورَّع- غفرَ الله له ورحمه- عن افتراض أيّ شيء، هكذا بلا دليل، ومهما كلَّف الأمر، في جرأة عِلْميَّة تكاد لا تحدّها حدود.
لقد كان منهاج الصليبي سهلًا جدًّا، كما رأينا، فما عليه إلَّا أن يُفتِّش عن الاسم التوراتي في حروف الأسماء المكانيَّة في الجزيرة العربيَّة، بصورة أو بأخرى. حتى إذا لم يوفَّق، لَفَّق؛ كأنْ يقول إن (صَبُويِيم)- تثنية صبي بالعبريَّة، أي ظبي- هي: (صبيا) و(الظبية) معًا، في منطقة (جازان)!(4) مع أن الإشارة في التوراة إلى (مملكةٍ واحدة)، في (مكانٍ واحد)، اسمها صَبُويِيم، لا إلى مكانين في موضعين مختلفين. لكن ما لا يُدرك في مكان، لا يُترك في مكانين!
أمَّا اسم (شارون)، فقال هو إشارة إلى وادٍ بناحية (العبادل) اسمه (شرّانة)، بلا شكٍّ لديه ولا تردّد، «ولا بُدّ»، كما يكرِّر هذه العبارة في كتبه!(5) وعلى هذا فقِس بقية الأوهام والمزاعم! حيث تصبح الإشارات قابلة للتأويل بلا حدود، وللاحتمالات بلا قيود، لا لغويَّة ولا منطقيَّة ولا تاريخيَّة، فالمهمّ وجود حرفين أو ثلاثة، وكأنه يستقرئ طلاسم سَحرةٍ، أو رموز مشعوذين.
وهو، قطعًا، لا يعرف الأماكن التي يتحدَّث عنها. نقطع بهذا في (فَيْفاء) على الأقل، وعلى أبناء المناطق الأخرى مراجعة تحليلاته، لقبولها أو دحضها. وهو ما لا أعلم أن أحدًا قد فعل ذلك على النحو الذي يجدر به. حتى إن ما كتبه (الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله) إبّان صدور الكتاب الأوّل من كُتب (الصليبي) إنما جاء، كما قال، بضغوطٍ من آخرين، وبإلحاحٍ منهم، وهو زاهدٌ في الأمر، مستسخفٌ له، وغير مطَّلع على كتاب الصليبي، بل على مقتطفاتٍ ممّا نُشر عنه في الصحف. فجاء ردّه ردًّا عامًّا، على أهميّته في كشف الاختلال المنهاجي في استقراء الصليبي. والصليبي إلى جهله اللافت بالأماكن، لا يعرف تاريخ نشأتها أيضًا، ولا طبيعتها، وربما لا يعرف التسميات الصحيحة لبعضها. بل يبدو لا يفرِّق بين منطقتَي (جازان) و(عسير)، فكلتاهما عسير عنده غالبًا. كما أن بعض مناطق (الحجاز)، يدرجها جميعًا تحت اصطلاح (عسير الجغرافيَّة). ربما لمزيد من الإيهام بقرب الشُّقَّة بين مكان في جازان وآخر في الحجاز، كأن يذكر مكانًا في (هَرُوْب) ويُلحقة بآخر في (الطائف) أو (رابغ) أو (القنفذة).
[للنقاش بقيّة].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الصليبي، (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل، (بيروت: دار الساقي)،، 239.
وفي كتابه ((1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 136) سيقول إنها في «بلاد غامد وزهران».
(2) The Barnum effect إشارة إلى الظاهرة النفسيَّـة التي تجعل بعض الناس ميّالين إلى تصديق الدجاجلة والمنجِّمين، وإنْ كَذَبوا وكَذَبوا. و(بي. تي. بارنوم P.T. Barnum، -1891) هو الاستعراضي الأمريكي الشهير، صاحب مقولة: «لدينا شيء ما يناسب كلّ واحد من الجمهور».
(3) انظر: (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 165.
(4) انظر: م.ن، 44.
(5) انظر: م.ن، 284.
31/ 12/ 2014
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 30 ديسمبر 2014، ص19.
|