(عسير) هي جبل «سعير» التوراتي، حسب زعم (كمال الصليبي)! وهو بهذا يُلغي العربيَّة في تلك البلاد، وتاريخ دلالاتها، وأصول اشتقاقاتها، لصالح العبريَّة، من أجل توطينها في عسير قسرًا. كأن عسيرًا لم يقطنها عرب، ولم يسمِّها عرب. إنه لا يكتفي بتلفيق الأسماء التوراتيَّة، بل يحاول العبث بالعربيَّة نفسها كي تصبح عبريَّة، فتستقيم له دعاواه. ولذا تُصبح «عسير» «سعيرًا»؛ لأنها لو بقيت «عسيرًا»، كما هي، لكانت عربيَّة، ولكان معناها واضحًا، وصفًا للمكان بأنه وَعِرٌ عسير، على السالكين غير يسير. وهذا عسيرٌ قبوله على الصليبي أيضًا؛ لأن الإقرار بعروبة المكان، وعروبة أهله، وعروبة لغته، وتسمياته وصفاته، لا يتساوق ونسبته إلى (بني إسرائيل) وإلى لغتهم وتاريخهم وكتابهم. وهذا هو ما فعله في التعامل مع معنى «السَّراة» كذلك، ليحرِّف معناها الاشتقاقي العربي إلى «إسرائيل» تارةً، وإلى «سارة» زوج (إبراهيم) تارةً أخرى. على أن تسمية (عسير) بهذا الاسم، أو وصفها بهذا الوصف، لا نقف عليه في شِعر العرب القديم، الجاهلي والإسلامي. ما يشير إلى أنه اسم غير قديم الاستعمال، حتى في تاريخ العرب، فضلًا عن قِدَمه في تاريخ البشرية. وأوَّل من أشار إلى عسير، بهذا الاسم، من المراجع بين أيدينا: (الهمداني، -345هـ تقريبًا= 956م) في كتابه «صفة جزيرة العرب». فهذه مجازفة تاريخيَّة إلى المجازفة اللغويَّة في ادّعاء (الصليبي) بعبرانيَّة الاسم. إذن، إنْ لم تسعفه الأسماء العربيَّة والكلمات الشبيهة بمفردات التوراة، من أجل نقل (بني إسرائيل) وتاريخهم إلى (الحجاز) وجنوب غرب الجزيرة، فلتُعَبْرَن العربيَّة نفسها، وليُقَل إنها في الأصل مسخٌ من اللغة العبريَّة. ومثل هذا يفعل حينما لا تستقيم خارطته المفترضة مع الروايات التوراتيَّة؛ فما لا يتماشى مع خارطته الجاهزة سلفًا من تلك الروايات هو لديه خرافيٌّ زائفٌ، وما تماشى معها فهو القصص الحقّ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! إنه منهج مَن لا يبحث عن أسانيد الحقّ، بل يبحث عن أسانيد ما يريد، مع سبق الإصرار والترصد، ورفض كلّ ما لا يخدم وجهته التي هو مولِّيها. فإنْ حاججته بنصوص التوراة، لم يَعتدَّ بها، وإنْ حاججته باللغة، لم يفقه ما تقول، وإنْ حاججته بتاريخ المَواطن، لم يحفل بما تقول، وإنْ حاججته بأخطائه هو، ومعلوماته غير الصحيحة التي يبني عليها أوهامه، لم يهتم، بل ظلّ يكرّرها ويضيف إليها. فما معنى هذا، غير توسُّل شكليَّات البحث العامَّة لغايةٍ مسبقةٍ، هي فرض أفكار مُرادة قبل البحث، الذي ليس سوى وسيلةٍ إلى غايةٍ مبتغاة؟ ولذا فإنك إذا سبرت عمله، لا تجد له على هذا برهانًا ولا على ذاك، وإنما هو الظن والهوى أو المكابرة، بعد أن أصبحت فرضيَّته عقيدةً، لا تراجُع عنها، مهما تصادمت معلوماتيًّا أو تاريخيًّا أو لغويًّا. وعندئذٍ لن يبقى أيّ ادّعاءٍ عسيرًا، ولا أيّ زعم يقتضي سَراةَ إثبات. فما لا يُدرك بالتلفيق، لا يُترك بالتزوير! فأيّ حِجاج مع من بلغ نهجه في التعاطي مع الحقائق والتاريخ واللغة إلى هذه الدرك؟! انظر إليه ماذا يقول في أحد كتبه- فيما يُوهِم بأنه دليل على تاريخ بني إسرائيل في الجزيرة العربيَّة، وإنما هو دليل على إفلاسه هو أيَّما إفلاس-: «وأنا أقول إن هذا الشعب [يعني شعب إسرائيل] عاش تاريخه في غرب الجزيرة العربية، وليس في فلسطين، أوّلًا، لعدم وجود دليل حقيقي من أي نوع على أن موطنه كان في الواقع في فلسطين، ولو كان موطنه في فلسطين لكان خلّف هناك من بعده على سطح الأرض أوضح الآثار وأبقاها.» لكنه في المقابل لا يسأل نفسه عن وجود دليلٍ حقيقيٍّ من أيّ نوعٍ على أن موطن هذا الشعب كان في الواقع في غرب الجزيرة العربيَّة، ولو كان موطنه في غرب الجزيرة العربيَّة لكان خلَّف هناك من بعده على سطح الأرض أوضح الآثار وأبقاها. ثم قال: «وثانيًا، لأن هناك الدليل الكافي- سواء من ناحية أسماء الأماكن، أو من ناحية شهادة التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه- على أن موطن هذا الشعب كان في جنوب الحجاز، وما يليها من بلاد عسير حتى اليمن.» هذا هو الدليل الكافي! فأيّ دليلٍ في دليله، فضلًا عن أن يكون كافيًا بأيّ نسبة من الكفاية لها احترامها العِلْمي ومصداقيَّتها التاريخيَّة. أمَّا أسماء الأماكن، فقد رأينا، وسنرى، أنه إنما يبني على أوهام من الكلمات، وأنه يجهل الأماكن التي ينسب إليها ما ينسب، فيهرف بما لا يعرف. فهذا دليلٌ ساقطٌ بما فيه الكفاية. غير أنه، وهو يُدرك الضعف الذريع في استناده على هذا الدليل، يشفعه بإيهام القارئ بأن هناك «شهادة للتراث العربي، وخصوصًا اليماني منه» على مواطن بني إسرائيل في جنوب (الجزيرة العربيَّة) وغربها. والقارئ حين يقرأ هذا الزعم يتحفَّز، متوقِّعًا أن يسرد عليه المؤلِّف ما ورد في كتبٍ حول ذلك، أو في أخبار تاريخيَّة، أو في شِعرٍ أو في نثر. حتى إذا أفرغ الرجل جعبته، لم يجد من ذلك شَرْوَى نقير.
تُرى ما «شهادة التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه»؟ قال: «وقد أرشدني مؤخّرًا صديقي الباحث فرج الله صالح ذيب [وكثيرًا ما يرشده آخرون، مكرِّرًا الإخبار بذلك في أعماله، ما يؤكِّد أنه ظلّ منشغلًا بمعجم الأسماء لا بالبحث التاريخي، كما ينبغي للبحث أن يكون، لكن الآخرين لا يقصِّرون في إرشاده!] إلى ما يقوله... الهمداني، صاحب «كتاب الإكليل»... بهذا الشأن، نقلًا عن قدامى رواة الأخبار من أهل اليمن. ومن ذلك خبر هروب داود في وقت من الأوقات، ودخوله إلى الغار في جبل حراء، خارج مكّة.»(1) وهنا يوهم القارئ بأن هناك أخبارًا عن أهل (اليَمَن)، منها هذا الخبر، تشهد له بأن مواطن بني إسرائيل كانت في جنوب الجزيرة العربيَّة وغربها. وهذا إفكٌ عظيم. فإذا رجعتَ إلى «الإكليل»، وجدتَ هذا الشاهد النكتة «من التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه». فوجدتَ أن صاحب «الإكليل»(2)، في «باب القبوريّات»، يقول: «هذا ما تناهَى إلينا من الأخبار القبوريَّة المشابهة لقبور حِمْيَر وهي لغيرهم. وروَى ابن لَهيعة قال: لمَّا أصاب داود، عليه السلام، الخطيئة، أعمل الاختلافَ إلى غيران العُبَّاد، حتى وقعَ على حِراء، جبل العبَّاد، فأُوحي إليه أن يدخل إلى غارٍ بالقرب منه، فهبط إليه داود، عليه السلام، فإذا فيه ميت مسجّى، وإذا عند رأسه صفيحة من نحاسٍ مكتوبٍ فيها: أنا ذو شلَّم الملك، ملكتُ ألف سنة، وافتتحتُ، ألف مدينة، ونكحتُ ألفَ عاتق، ثم صرتُ إلى الأرض، فراشي التراب، ووسادي الحَجَر، وجيراني الدود. فمن رآني، فلا يغترّ بالدنيا بعدي.» هذه هي الشهادة «من التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه»، التي توكَّأ عليها الصليبي وهشّ بها على القرّاء! فأيّ شهادةٍ في حكاية خرافيَّة كهذه؟ وما أكثر أمثالها. لدينا في جبال (فَيْفاء)، مثلًا، صخرة يسمّونها: «ناقة صالح»، ووَفق منهاج الصليبي يمكن أن يستدلَّ بهذا الاسم، وبحكاية العامَّة هناك، على أن الصخرة تلك هي ناقة (صالح) مُسِخت صخرةً، وأن صالحًا وقومه وناقته كانوا في حَقْو جبال فَيْفاء، لا في (الحِجْر) من (وادي القُرَى). بل مَن قال إن (حِراء) في الخبر هو غار حراء مكَّة، أصلًا؟ وأكثر من هذا أن صاحب «الإكليل» قد عقَّب على الخبر بما ينقض استدلال الصليبي. لذلك لم يشأ إبراز ذلك التعقيب؛ لأنه يُضعف ما أعلنه من شهادة «التراث العربي، وخصوصًا اليماني منه» لما ذهب إليه. فماذا عقَّب به صاحب «الإكليل»؟ قال: «وهذا الملك لم يشتهر خبره عند العلماء، ويُروَى أنه يريد في خبره بُعد داود، عليه السلام. قال الهمداني: إني لا أرى [في](3) هذه الأشياء المستنكرة في الزُّبُر القبوريَّة، إنما يكون من الذين يكتبونها، فيزيدون في الشيء ما ليس فيه، ليعظُم ذلك عند مَن بَعدهم، فيزهدوا في الدنيا ويعلموا أنهم دون من فَرَطَهم.» ثم أضاف: «شَلَّم هي: (إيلياء)، وقد تعرِّبها العرب، فتقول سَلِم، قال الأعشى:
وقد طُفت للمال آفاقه ** عمان(4) فحمص فأوري سَلِمْ
وقال العبرانيون وهي يورَشَلِم.» إذن هذه هي شهادة التراث العربي التي لم يُرد إبرازها الصليبي بل لوَّح بنقيضها، وهي: أن تلك مجرد حكاية خرافيَّة، ساقها (الهمداني) مع خرافات قبوريَّة أخرى، تُوْرَد على سبيل العِظَة والعِبرة والتزهيد في الدنيا، وتهويل أمر السَّلَف مقارنةً بالخَلَف، ومع ذلك فإن ديارهم بمن فيها قد:
أَمسَتْ خَلاءً وأَمسَى أَهلُها احتَمَلوا ** أَخنَى عَلَيها الذي أَخنَى على لُــبَــدِ
كما قال (النابغة الذُّبياني)، ولم تَرِد تلك الحكاية عن (داوود) بوصفها خبرًا تاريخيًّا ذا قيمة، أو يُستدلّ به على شيءٍ من حقائق التاريخ. ثمّ إن (شَلَّم)، كما شهد الهمداني أيضًا، هي: إيلياء، في (فلسطين)، وهي التي يدعوها العبرانيُّون: يورَشَلِم، لا (آل شريم!)، في (النماص)، كما زعم الصليبي.
[للنقاش بقيّة].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1991)، حرب داود: الأجزاء الملحميَّة من سِفر صموئيل الثاني مترجمة عن الأصل العبري (عمّان: دار الشروق)، 19.
(2) (د.ت)، الإكليل، بعناية: نبيه أمين فارس (صنعاء: دار الكلمة- بيروت: دار العودة)، 8: 169- 170.
(3) لعلّ حرف الجرّ هنا مُقـْـحَم.
(4) في الكتاب «عمّان»، (بتشديد الميم)، وبه ينكسر الوزن.
8/ 1/ 2015
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الأربعاء 8 يناير 2015، ص30.
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=554368#
|