إن استشهاد (كمال الصليبي)، في كتابه «حروب داود»، بـ(الهمداني)- الذي وقفنا عليه في الحلقة السابقة- يثير التساؤل هل رجع إلى كتاب «الإكليل»، أم اكتفى بما أرشده إليه صديقه الباحث (فرج الله صالح ذيب)؟! فإنْ كان رَجَعَ، فلقد عمَّى، تارةً، على ما ينسف زعمه من «شهادةٍ للتراث العربي، وخصوصًا اليماني منه» لقيام ممالك (بني إسرائيل) في جزيرة العرب، وأخفَى من ذلك ما أخفَى، تارةً أخرى. وإذا لم يكن قد رَجَعَ إلى كتاب «الإكليل»، فتلك قاصمة الظهر التاريخي. فلقد ساق صاحب «الإكليل» أيضًا قصيدتين، الأُولى في رثاء (الملك سليمان، -925ق.م)، والأخرى في رثاء (بِلقيس)، جاءت الأُولى منسوبةً إلى (القَلَمَّس)، أفعى (نجران)، قال: «وكان داعيًا من دعاة سليمان بنجران، آمن وحسُن إيمانه». وفي مرثيته يسوق القِصَّة القرآنيَّة حول مُلك (سليمان).(1) والقصيدة الأخرى (للنعمان بن الأسود الحِمْيَري) في رثاء (بِلقيس بنت الهداهد بن شرحبيل)، وذكر أن: «قبرها بـ(مأرب)، قال أبو محمَّد لم تلبث بعد أن قُتل ولدها رحبعم بن سليمان بأنطاكية إلَّا سنة واحدة ثم ماتت.» وفي هذه القصيدة كذلك تَرِد القِصَّة الواردة في (القرآن الكريم) بتفاصيلها. ومنها حكاية الهُدهد المبعوث إلى بِلقيس بنت الهداهد:
هُدْهُدٌ منْ طيورِ أرضِ شآمٍ ** فرمَى في الهوا على العَرْشِ نُوْرا(2)
ومع أن القصيدتين كلتيهما من منحول الشِّعر، كما يتضح من أسلوبهما، إلَّا أن فيهما ما يناقض استشهاد (الصليبي) الانتقائي، والزاعم «بالتراث العربي وخصوصًا اليماني منه» الشاهد على ما ابتدعه من دعاوَى. فجَدَلًا، نقول: إذا كان يستشهد بالحكاية الأُولى عن (داوود)، على ما فيها من انتفاء الشاهد، كما رأينا في الحلقة السابقة، فلماذا لا يستشهد بالأخرى عن سليمان وبلقيس، المشيرة إلى (أنطاكية) وإلى (الشام)، وأن مملكة سليمان كانت في تلك الجهات، لا في جزيرة العرب؟
أجل إن التراث العربي- الذي أراد الصليبي أن يستشهد به على أن بني إسرائيل كان تاريخهم في جزيرة العرب ففشل في ذلك- إنما يقول نقيض ادِّعائه؛ فهو، أوَّلًا، لا يُورِد ذِكرًا لخبرٍ أو لتاريخٍ لبني إسرائيل وممالكهم في جزيرة العرب البتّة، وثانيًا، هو يُورِد إشارات إلى أن ممالكهم منذ سليمان كانت خارج الجزيرة العربية، وفي بلاد الشام تحديدًا. وذلك ما حفظته الذاكرة العربيَّة وسجَّلَته، كما في قول (النابغة الذبياني، -604م)(3) من معلَّقته:
إِلَّا سُلَيمــانُ إِذ قــالَ الإلاهُ لَـــهُ ** قُمْ في البَرِيَّـةِ فَاحدُدْها عَنِ الفَنَدِ
وخَيِّسِ الجِنَّ إِنِّي قَد أَذِنتُ لَـهُـم ** يَبْنُـوْنَ (تَدْمُرَ) بِالصُّفَّاحِ والعَمَـدِ
إنها ذاكرة تاريخيَّة وأدبيَّة لا أثر فيها لدعاوَى الصليبي.
وما يزال الرجل يأتي مثل ذاك الاجتزاء في النصوص المقتبسة. من ذلك قوله في كتابه «حروب داود»(4) عن مكان اسمه (نهر السبت): «ويؤكّد ذلك [أن هذا المكان في الحجاز] ما ورد في كتاب الرحّالة الدمشقي المعروف بابن المجاور، الذي زار بلاد الحجاز واليمن في الربع الأول من القرن الثالث عشر للميلاد. وقد قال ابن المجاور في كتابه المسمّى «تاريخ المستبصر» (ليدن، 1954، ص32- 34)، متحدّثًا عن مسألة «نهر السبت»: «قالت أهل الذمة: إنه في أرض التيه. وحدثني يهودي صائغ بعدن قال: إنّ نهر السبت في أرض يقال لها صيون، والأصح أنه في الحجاز، ظهر... ووراء هذا النهر من اليهود مائه ألف ألف رجل وامرأة وهم يزيدون على العد خارجون عن الحد، والقوم عرب يعقدون القاف الألف في لغتهم، وهي جملة القوم أولاد موسى بن عمران عليه السلام...».»
وقد حذف من النصّ ما يتضمَّن خلاف ما يريد. والنصّ بتمامه هو: «قالت أهل الذمة: إنه [نهر السبت] في أرض التيه. وحدثني يهودي صائغ بعدن قال: إنّ نهر السبت في أرض يقال لها: صيون. والأصح أنه في الحجاز ظهر، وهو نهر رمل سيال يجري من ليلة الجمعة إلى غداة يوم السبت لم يقدر الإنسان [أن] يعبره من شدة جريانه في ذلك اليوم ويسكن باقي الأسبوع. ووراء هذا النهر من اليهود مئه ألف ألف رجل وامرأة، وهم زائدون على العدّ خارجون عن الحد. والقوم عرب يعقدون القاف الألف في لغتهم، وفي جملة القوم أولاد موسى بن عمران، عليه السلام. و يقال: إنما حصلوا [كذا!] هؤلاء اليهود في هذه الأرض والأعمال إلَّا [كذا!] من غزوة بختنصر البابلي لليهود بأرض الشام وديار مصر، والأصح لإظهار الله عز وجل محمَّدًا، صلى الله عليه وسلَّم؛ فخرجوا هاربين من خيبر ووادي القُرى وسكنوا هذه الأراضي. وإلى الآن إذا تاه بعض الحجاج بطريق مكّة ووصل إلى القوم، فبعضهم يقتله وآخرون يقبلونه ويردّونه على أحسن حال.»(5) فـ(ابن المجاور)- كما ترى- يتحدّث عن ذلك المكان المسمَّى نهر السبت، وما أخبره به الصائغ اليهودي في (عَدَن). وواضح من السياق أن كلام ذلك الصائغ مقتصر على القول: «إنّ نهر السبت في أرض يقال لها (صيون)»، فقط. أمَّا التصحيح والشرح، فلابن المجاور. حيث أخبر أنه في (الحجاز)، وأن وراءه من اليهود عددًا كبيرًا. غير أن الصليبي أراد أن ينسب هذا النصّ عن نهر السبت برمَّته إلى الصائغ العَدَني؛ كي يتسنَّى له القول إن هذا التاريخ عن وجود اليهود في الجزيرة قد عَلِق بالذاكرة اليهوديَّة الشعبيَّة.(6) وهذا خلطٌ منه، أغلب الظن أنه مقصود، ليُمرِّر من خلاله ما يدعم مزاعمه. وإلَّا فإن ما علِقَ بذاكرة الصائغ العَدَني لا يعدو القول إن مكان نهر السبت يقع في أرض اسمها صيون في أرض التِّيه. ثم استدرك ابن المجاور، مصحِّحًا، بأن المكان في الحجاز، وأخذ يَصِف أحواله في عصره. وهو هنا يتحدّث عنه في العصر الإسلامي- لا في التاريخ القديم، كما وهم الصليبي أو أوهم- ذاكرًا أن مَن فيه من اليهود أَتوا من الشام إثر الغزو البابلي. وقد بالغ ابن المجاور مبالغة فاحشة في الزعم أن اليهود هناك «مئة ألف ألف»، أي مئة مليون. ولعلّه أراد: «مئة ألف». لكن انظر كيف حذف الصليبي كلام ابن المجاور عن أن هؤلاء إنما قَدِموا من أرض الشام، بعد غزوهم من قِبَل (نوبختنصر البابلي) في الشام، ثم رجَّح ابن المجاور أنهم من يهود (خيبر) و(وادي القرى) الهاربين من «محمَّد، صلى الله عليه وسلَّم». لأن الصليبي لا يريد ذِكر هذا، بل الإيهام أنهم أصلًا قادمون من جنوب غرب الجزيرة، لا من شمالها أو شامها، وأن ابن المجاور قد شهد له بذاك. بل لم يكتف الصليبي بهذا، بل زعم أن صيون المذكور ليس لا في أرض التِّيه، كما أخبر الصائغ اليهودي، ولا في الحجاز، كما قال ابن المجاور؛ فهو لا يرضَى برواية أو بنصٍّ- وإنْ استشهد به بنفسه- ما لم يوافقه على أن مَواطِن بني إسرائيل في (عسير) وما جاورها، ولن يجد رواية ولا نصًّا يوافقه على ذلك. وتلك معضلته! لذا عاود الزعم أن صيون: (قعوة صيان) في (رجال ألمع)، وأن واديًا هناك «لا بُدَّ» أنه نهر السبت؛ لأن قرية في الجوار اسمها اليوم (آل سبتي).(7) وواضح أن القرية لأناس يكنون بآل سبتي، لا أنها هي بهذا الاسم. ولا تنس هنا أنه في كتابه الأول «التواراة جاءت من جزيرة العرب»(8) كان قد زعم أن (قعوة الصيان) هي (جبل صهيون)! فلم يُصِب لا هنا ولا هناك؛ لأنه يجهل أن صيَّان اسم إنسان، لا اسم مكان، وأن المكان إنما سُمِّي باسمه، أو بعشيرته التي تُعَدّ فخذًا من قبيلة رجال ألمع، وأنه عاش في زمنٍ متأخِّر جدًّا، لا قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة. غير أن هذا دأبه؛ فهو لا يهتمّ إلَّا بتشابه الحروف بين الأسماء، ثمّ لا يسأل عمّا وراء ذلك.
[للنقاش بقيّة].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: (د.ت)، الإكليل، بعناية: نبيه أمين فارس (صنعاء: دار الكلمة- بيروت: دار العودة)، 202. وإنْ كان القلَّمس كما وُصف في «الإكليل»، فهو معاصر لسليمان؛ أي أنه عاش في القرن العاشر قبل الميلاد. أمّا مرثيته، فنصٌّ قرآنيٌّ خالص. ومن ثَمَّ فهي من منحول الشِّعر الموضوع في العصر الإسلامي. يدلّ على ذلك، إلى أسلوب القصيدة، إيراده في رثاء سليمان أحداثًا وقعت بعد عصر سليمان، ونعني تحديدًا قِصَّة (ذي القرنين)، أو «لوقرانائيم»، كما في «التوراة»، وهو، على الأرجح، (قورش الأكبر)، الملك الفارسي، الذي سأل اليهود محمَّدًا عنه، امتحانًا لمعرفته بخبره. وهناك فرضيَّات شتّى حول ذي القرنين، هذه أرجحها لدينا. (انظر مثلًا: موسوعة «الوكيبيديا»، على «الإنترنت»: مادة «ذو القرنين»).
(2) انظر: م.ن، 204- 206. وفي القصيدة ركاكة لغويَّة ونحويَّة. ولم يضبطها (نبيه أمين فارس)، ولم ينبِّه إلى ما فيها. في الأصل: «نور»، والصواب، نحويًّا: «نورًا»، ولا تستقيم مع سائر القوافي المرفوعة إلّا بالتقييد. غير أن التقييد يؤدِّي، عَروضيًّا، إلى عِلَّة (القَصْر)، وهي عِلَّة لا تسوغ في (البحر الخفيف) التامّ.
(3) (1985)، ديوانه، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 20- 21/ 22- 23.
(4) (1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)،26.
(5) ابن المجاور، (1996)، صفة بلاد اليَمَن ومكّة وبعض الحجاز المسمّاة: تاريخ المستبصر، باعتناء: ممدوح حسن محمَّد (القاهرة: مكتبة الثقافة الدِّينيّة)، 45. وما بين قوسين مربَّعين من إضافتنا أو تنبيهنا؛ فالنصّ لا يخلو من اضطراب.
(6) انظر: حروب داود، 42.
(7) انظر: م.ن، 26- 27.
(8) انظر: (1997)، ترجمة: عفيف الرزّاز (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة)، 178- 183.
23/ 1/ 2015
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 20 يناير 2015، ص24.
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=557681#
|