إذا سلَّمنا جَدَلًا بأن الجامعين لأسفار (التوراة) ومترجميها ومحقِّقيها في بلاد (بابل)، بعد السَّبْي، ولبُعد الأَمَد واختلاف البيئة لم تكن لديهم المعرفة الجغرافيَّة بالبيئة التي وُضعت فيها نصوص التوراة، أفَنَنْسَى سؤالًا آخَر، غير معقول الإجابة، هو: كيف حدث أن طَمَسَ اللهُ على العقول حول تاريخ (بني إسرائيل)، وحول أرضهم الأصليَّة، هم وحدهم دون سواهم من الشعوب والتواريخ؟!
إن الشعوب عادةً لتعرف أراضيها، مهما غُرِّبت عنها، وتعرف أراضي جيرانها، وأراضي الأعراق المختلفة فيها، الأصيلة والطارئة. تعرف ذلك معرفةً نِسبيَّةً لا تتماهَى بحالٍ والجهل التامّ. والمؤرِّخون يعرفون ذلك أكثر، إنْ كانوا مؤرِّخين حقًّا. ما قال أحد، مثلًا، إن (المِصْريِّين) كانوا يعيشون في (اليَمَن)، ولا إن (اليبوسيِّين) كانوا يعيشون في (بلاد فارس)، ولا إن (الأكديِّين) كانوا يعيشون في (المغرب). فما بال بني إسرائيل دون العالمين يقع في شأنهم هذا الخلط والضلال المبين؟! صحيح أنها قد تغيب عن المدوِّن القديم، أو المؤرِّخ، بعض التفاصيل، لكنها لا تغيب عنه بالكلِّيَّة تلك المعلومات الأوَّليَّة المشتهرة، ولا الأحداث المتواترة أخبارها بالضرورة.
كيف بإمكانك، إذن، أن تصدِّق رجلًا جاء يقول لك إن (بني إسرائيل) كانوا يعيشون في الجزيرة العربيَّة على مدى مئات السنين، ناهزتْ الألف عام، وكانت لهم خلالها الممالك وفيهم التحوّلات الاجتماعيَّة والثقافيَّة الجُلَّى، وكانت لهم فيها الحروب الطاحنة والمصادمات الأُمميَّة، المشهودة، أرضًا وسماءً، ولكن لا شعب (إسرائيل) يعلم حقائق ذلك، ولا غيره من الشعوب يعلمون كذلك؛ فلم تحفظ الذاكرة ولا الأرض ولا المؤرِّخون ولو لمحةً عن ذلك التاريخ! بل أبعد من هذا، وجدناهم ينسبون تاريخ ذلك الشعب وينسبه غيرهم إلى بلدان أخرى وممالك قُصوَى زورًا وبهتانًا، أو جهلًا واختلاطًا، وهو، أي صاحبك المؤرِّخ الحديث، مَن جاء- بعد أكثر من ألفَي عامٍ وخمسة قرون- ليصحِّح التاريخ؟! يقذف إليك هذا التصحيح المأتفك، وأنت في كامل وعيك أنه يحدِّثك، لا عن ماضي قبيلة مغمورة من القبائل، ولا عن تاريخ (الغَجَر) الملتبس، ولا عن أرض (وَبار) الخرافيَّة، بل عن تاريخ ممالك من أشهر الممالك في التاريخ على الإطلاق، وعن أنبياء من أُولي العزم من الرسل، وعن صراعات دِينيَّة وحضاريَّة تُعَدّ مفصليَّة في تاريخ المنطقة قاطبة والعالم أجمع.
هذا، ولقد كان صاحبنا يفرح إذا وجد خلال قراءته حروف اسم قريةٍ، أو قبيلةٍ، أو خبتٍ، أو مزرعةٍ، أو حتى خَرِبَة تُجانِس اسمًا وَرَدَ في التوراة، جناسًا ناقصًا جدًّا غالبًا. أمَّا حين لا يوفَّق إلى تشابه حروفٍ، بشكلٍ أو بآخر، فذلك ممَّا حرَّفه (المسّوريّون) اليهود في التوراة، كما يقول. كلامًا مرسلًا، لا يستند فيه على دليل. فإذا سمع، أو قرأ، عن مكانٍ اسمه (الدَّثْنَة) في جبال (فَيْفاء)، على سبيل الشاهد، قلَّبه واعتصره اعتصارًا لربطه باسمٍ توراتيٍّ، «ولا بُدّ». وإنْ كان في فَيْفاء وحدها ثلاثة أمكنة بالاسم نفسه، وفي مواضع مختلفة، موضعٌ في جبل (آل الثُّوَيْع)، وآخر في جبل (آل أبي الحَكَم)، وثالثٌ في (أسفل جبل آل ظُلْمَة). وفي غير (فَيْفاء) مثل ذلك الاسم. فلا يُدرَى أيّها المقصود؟! ونحن نجد ذِكر إل?ه للقبائل الثموديَّة في شمال الحجاز باسم «دثن»، أو «دثان»، يَرِد في النقوش الثموديَّة والصَّفَوِيَّة. وكان من أسماء شمال الحجاز: «دوثان»؛ ما دفع بعض المستشرقين إلى ربط هذا الاسم بذاك الإل?ه (دثن). ويظهر أن عبادة هذا الإل?ه كانت معروفة في أماكن أخرى من الجزيرة، من ذلك وسط الجزيرة، ولا يبعد أن يكون ذلك في غير وسطها أيضًا. واقترن دثن (باللَّات) أحيانًا، وإنْ لم يُعرف أصل هذا الاسم أو الإل?ه.(1) فهل لاسم (الدَّثْنَة) علاقة بذاك؟ ربما، وإنْ تعذَّر التحقّق من ذلك! ومهما يكن من أمر، فهي معلومةٌ للتأمُّل في الميثولوجيا العربيَّة الكامنة خلف هذه التسمية. أمَّا لغويًّا، فدَثَن فِعلٌ يأتي بمعنى: دَفَنَ، كأنه على سبيل الإبدال الصوتي. ودَثَنَ بمعنى: حَطَّ، أو نَزَلَ؛ ولذلك قالوا: دَثَّنَ الطائرُ يُدَثِّن تَدْثِينًا، إذا طار وأَسْرَع السُّقوطَ في مواضِعَ مُتقارِبة وواترَ ذلك. ودَثَّن في الشَّجرة: اتَّخَذَ فيها عُشًّا. والدَّثِينة: الدَّفينة. و(الدَّثِيْنَة)، أو (الدُّثَيْنَة): ماء (لبني سُلَيم)، أو (لبني سيّار بن عمرو). قيل كان اسمه: الدفينة، فغُيِّر، تطيُّرًا. وفي الحديث جاء ذِكْر (الدَّثِيْنة)، في ناحية قرب (عَدَن)، بينها وبين (الجَنَد). وهو موضع (بمصر) كذلك. وفي الحديث ذِكْرٌ لغزوة (داثِن)، وهي ناحية من (غَزَّة الشام)، أَوقعَ فيها المسلمون بالروم، وهي أَوَّل حربٍ جَرَتْ بينهم. و(الدَّثِيْن): جَبَل.(2) والدَّثْنَة: الماء القليل يكون في الأرض(3). ولعلّ هذا الأخير أقرب الاحتمالات وراء اسم (الدَّثْنَة) في جبال (فَيْفاء). وهكذا ترى كثرة الأماكن بالاسم الواحد، أو من المادّة اللغويَّة الواحدة، في مواطن شتَّى. فما الذي يُثبت أن أحدها هو المقصود في التوراة دون غيره؟ أمَّا قرائن المواضع الأخرى المجاورة، فسنرى لاحقًا أنه يتَّفق مجيء المواضع كذلك- متشابهة الأسماء والتجاور- في غير مكان واحد.
وكذا إذا سمع (الصليبي) باسم مكان في (فَيْفاء) هو (البَثْنَة)، قال: «إذا اعتبرنا أن لبون سفر زكريا هو لبينان اليمن، وليس لبنان الشام، لا تعود هناك أيَّة مشكلة بالنسبة إلى موقع (بشن)... وقد ساد الاعتقاد حتى الآن بأنها تشير إلى مرتفعات «البثينة» بين حوران والبلقاء، في جنوب الشام. وبشن هذه لا بدّ أنها اليوم «البثنة» في جبل فَيْفا...»!
«لا بُدّ»!
على حين يستعمل اسم (البَثْنَة) في موضع آخر، ليقول إن من المحتمل أنه «جبل الأطياب (هري بشميم)»، الوارد في «نشيد الأنشاد»، الذي صار لديه باسم جديد هو: «نشيد جبال جيزان»!(4) وهو لا يدري ما «البَثْنَة» على كلّ حال. إلَّا أنه اسم يُشبه «بشن»، تارةً، و«بشميم»، تارةً أخرى، ولو في حرفين أو حرف واحد. والبَثْنَة في (فَيْفاء) اسم بيتٍ عائليٍّ، حوله بُقعة محدودة في غرب الجبل الأعلى، تابعة لقبيلة (آل الداثر)، وتحمل تلك البُقعة الاسم نفسه. والاسم مشتق من «بَثَن». وتعني بلهجات فَيْفاء: جَلَسَ، أو بَرَكَ، واستقرَّ. ولا نجد هذا التعبير في معجمات العربيَّة، وإنما تشير إلى أن البَثْنَة: الرَّوْضَة، أو الأرض الطيِّبة: جَمْعُها بِثَان. وقيل: هي الرَّمْلَةُ اللَّيِّنَةُ. ويُصَغَّر على: بُثَيْنَة، وبها سُمِّيَتِ المرأةُ بُثَينةَ لِلِينها. والبَثْنَة: النَّعْمَة في النِّعمة. والبَثَنِيَّةُ: حِنْطَةٌ مَنْسُوْبَةٌ إلى قرية (بالشام)، بين (دمشق) و(أَذرعات). وفي حديث (خالد بن الوليد): أنه خَطَبَ فقال: «إن عُمَرَ استعملني على الشام وهو له مُهِمّ، فلما ألقى الشام بوانيه وصار بَثَنِيَّةً وعسلًا، عزلني واستعمل غيري.»(5) فهناك أسماء (البثنة) في غير (فَيْفاء)، ومنها تلك التي استبعدها (الصليبي) في (الشام)؛ لأنه لا يريد الشام بل القفز يَمَنًا.
فما علاقة بيتٍ عائليٍّ سمّاه أهله في زمن متأخِّر بالبَثْنَة- لمعنى من تلك المعاني المشار إليها- بـ«بشن» التوراتيَّة أو «بشميم»؟!
إنه هوس الحروف والتأويل!
[للنقاش بقية].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الروسان، محمود محمَّد، (1412هـ)، القبائل الثموديَّة والصفويَّة: دراسة مقارنة، (الرِّياض: جامعة الملك سعود)، 163.
(2) انظر: ابن منظور، لسان العرب المحيط؛ الزبيدي، تاج العروس، (دثن).
(3) انظر: الزبيدي، تاج العروس، (م.ن).
(4) انظر: الصليبي، التوراة جاءت من جزيرة العرب، 292، 281.
(5) انظر: الفراهيدي، العَين؛ الجوهري، صحاح اللغة، الزمخشري، أساس البلاغة، ابن عبّاد، المحيط في اللغة؛ ابن دريد، جمهرة اللغة، الأزهري، تهذيب اللغة، (بثن).
5/ 3/ 2015
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 3 مارس 2015، ص33.
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=568384
|