-1-
كانت معظم آلهة العرب مؤنَّثة، وتصوَّروا ملائكة الرحمن إناثًا، كما ذكرنا في المقال السابق. ولكن الشِّعر العربي قد رسَّخ صورة نقيضة عن المرأة العورة، المرأة التي لا تستحقّ الحياة، وهي عِبء على الرجل وعلى الحياة، مثلما جاء في شِعر (البحتري) و(أبي تمّام) و(المعرّي). [انظر كتابي "نقد القِيَم العربيَّة الإسلاميَّة"، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2005]. وصوّروها دُميةً، ومادّة لذّةٍ للرجل، بلا حياء ولا ضمير. فها هم أولاء كبار الشعراء الإسلاميين يتفاخرون ويمدحون أسيادهم بالبربريّة الهوجاء في استباحة الأعداء، وبسبي النساء والأطفال في الحروب. ها هو ذا (أبو تمّام الطائي) يمدح الخليفة العباسي (المعتصم) في بائيَّته المشهورة في فتح (عموريّة)، بقوله:
كَــم نيــلَ تَحــتَ سَـناها مِن سَـنا قَمَــرٍ
** وتَحتَ عارِضِها مِن عارِضٍ شَنِبِ
كَم كانَ في قَطْعِ أَسبابِ الرِقابِ بِهــا
** إِلى المُخَــدَّرَةِ العَـــذراءِ مِن سَــــبَبِ
أَبقَتْ بَني الأَصفَرِ المِمْراضِ كاسْمِهِمُ
** صُفرَ الوُجوهِ وجَلَّت أَوجُهُ العَــرَبِ
بيضٌ إِذا اِنتُضِيَت مِن حُجبِها رَجَعَت
** أَحَقَّ بِالبيضِ أَترابـًـا مِنَ الحُجُـــبِ
ومثل أبي تمّام قال آخرون من سالفيه ومجايليه ولاحقيه. يقول (أبو فراس الحمداني):
إِنْ زُرتُ خَـرشَــنَـــةً أَســيرا
** فَلَكَـمْ أَحَطــتُ بِهــا مُغــــيرا
ولَــقَـد رَأَيــتُ الــنــارَ تَــنــــ
** ـــتَهِبُ المَنازِلَ والقُصورا
ولَقَد رَأَيـتُ السَّـــبْيَ يُــجـــــ
** ــــلَبُ نَحــوَنا حُوًّا وحُـــوْرا
نَخـتــارُ مِنــهُ الغـــادَةَ الـــــ
** ــــحَــسناءَ والظَّبيَ الغَريرا
أمّا (أبو الطيِّب المتنبي)، فيقول:
وأَمسَى السَّبايا يَنتَحِبنَ بِعَرقَةٍ ** كَأَنَّ جُيوبَ الثاكِلاتِ ذُيولُ
إنها ثقافة عالميَّة عريقة في ظلم المرأة. لا علاج لأمراضها إلّا بتحكيم قوانين في العدالة الإنسانيّة، تعلن القطيعة مع تلك الموروثات المريضة. فالإنسان ما لم يعصمه عقل، ويحكمه قانونٌ إنسانيٌّ صارمٌ، هو أشدّ توحُّشًا من الحيوان. وما الظواهر «الدواعشيَّة» والإرهابيّة اليوم إلّا وليدة تلك المدارس الثقافيَّة.
-2-
في مقابل ذلك، وفي متابعة سيرورة السلوك الاجتماعي الغربيّ مع المرأة، يُلحظ أنه لمّا تقرّر لدى حكماء الغرب أن المرأة لا تخلو من بشريّة، انتقلوا إلى مرحلة جديدة، إنما طوّروا فيها سلوكهم القديم ليجعلوا المرأة سلعةً معروضةً، ومتعةً عموميّةً للذكور، وَفق سلوكهم الحديث. والغريب أن المرأة نفسها ظلّت تستسلم لذلك حديثًا، كما استسلمت لمثله قديمًا، بل هي كثيرًا ما تُناضِل من أجله باستماتة، وتراه حُريَّتها؛ فهي بذاك حفيدة تلك الجارية التي كانت تَنْذُر نفسها للقتل والحرق مع سيِّدها، كي تَلْحَق به في الجنّة، حسب وصف ابن فضلان لمشاهداته في المجتمعات الأوربيّة! وهنا يتجلَّى الارتهان للسلطة الذكوريّة. والمرأة حينما ترضى بدرجةٍ أقلّ من تلك الدرجة التي هيّأها الله لها، عقلًا وروحًا وجسدًا، متنازلةً عن كامل حقوقها الإنسانيّة، إنما تُسهم في إهانة نفسها بنفسها، على نحوٍ أفظع من الإهانة الذكوريّة لكرامتها.
لقد اتُّخذت المرأة وفق الحضارة الغربيّة- العريقة في نظرتها المحتقرة إلى المرأة- مطيّةً تجاريّة؛ لأنها في نظرهم تصلح لتلك الوظائف الحيوانيّة والشيطانيّة الإغرائيّة جميعًا؛ لتوافرها على خصائص المخلوقات الثلاثة: الحيوان، والشيطان، وبعض الإنسان. وما أزياء المرأة، التي ابتكرها الغرب في العصر الحديث، دون سائر الشعوب «المتخلّفة»، إلاّ إرثٌ تاريخيٌّ عن نظرته السلبيَّة إلى المرأة. وما كانت المرأة الغربيَّة هكذا تلبس قبل القرن العشرين.
-3-
لا فرق إذن، فواقعنا المعاصر وريث تراث التخلّف والظلم، اختلفت الأقنعة والوأد واحد! مع أن المتتبع سيلحظ أن وضع المرأة العربيّة وحقوقها العامّة قد آلت إلى تدهور في القرون الأخيرة، وذلك بسيادة تيارات دينيّة ومذهبيّة متشدّدة، عزّزت نزوعًا اجتماعيًّا موروثًا. وبذلك انحطّت مكانة المرأة المعنويّة عن ذي قبل؛ إذ يشهد تاريخنا الاجتماعي أنها كانت أفضل ممّا هي عليه الآن، كما تشهد الوثائق المكتوبة على مقدار ما كانت تحظى به من احترام لا تعرفه اليوم. فلقد كانت تلقَّب، مثلًا، بـ"السيِّدة"، وبـ"الحُرّة"، وهما لقبان يستنكف بعض من في نفوسهم جاهليّة عن منحهما المرأة، دون أن يدركوا بأنهم بذلك الاستنكاف إنما يهينون أنفسهم هم، بإهانة أُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم أو احتقارهن! بل إن بعضًا ليشتمّ من لقبَين مثل هذين دعوةً إلى تحرير المرأة، بما يكتنف مفهوم "تحرير المرأة" في تلك العقول من رِيَب وارتيابات؛ ما ينمّ، في ذاته، عن موقف من المرأة، على أنها غير جديرة أصلًا بأن تكون "حُرّة"، بل أن تكون "أَمَة"، أو شِبْه أَمَة!
-4-
كُـلُّ الدُّنْـيَــا الأُنـْـثَـى ، وعَلَـيْـــ
** ـها كُـلُّ الأُخْـرَى سَـوْفَ تَـدُوْرْ
* * *
مَـنْ قـالَ : « الأُنـْـثَـى شـَـيْـطـَانٌ »؟
** فابْـنُ الشَّيْطَانِ هُـوَ الـمَـغْـرُوْرْ!
مَـنْ قـالَ : «الـمَـرأةُ عـارٌ » فَـهـْـ
** ــوَ وَلِـيْـدُ الـعَـارِ أَتـاكَ يَـخُـوْرْ
الـمَـــرأةُ مَـنْــزِلَــةٌ عُـلْـــيــَــا
** بَـيْـنَ الإِنسـَــانِ وبَـيْـنَ النُّـــوْرْ
وُئِـدَتْ فـي بَـحْـرِ غِـيَــابٍ ، وابْـــ
** ـتُـزَّتْ - دَجَـلًا - في بَـرِّ حُضُوْرْ
* * *
سَـلْ (لَـيْـلَى) / (لُـوْ أَنـْـدِرْيـَـاسَ):
** ما ذَنـْـبُـهُما إنْ جُــنَّ صُقُــوْرْ؟!
مَـنْ كُــلُّ الـمَـرأةِ صَــيْـدُهُــمُ:
** جِـنْـسًا ، أو مُـلْكَ يَـدٍ ، وبَخُـوْرْ
مُـذْ (قَـيْـسٍ) حـتى (نِـتْـشَـةَ) والسَّــ
** ــوْطُ الـضَّارِيْ بـَـرْقٌ مَـسْطُـوْرْ
وكـذا يَـحْـكِــــيْ (زارادِشـْـــتُ)
** فـي جَـهْــلٍ نِـسْـبِـيٍّ مَشْهُــوْرْ
كَـتَـبُـــوا : هِـيَ حَـيَّــــةُ آدَمَ ، أو
** قـالُوا : مَـوْتُ الرَّجُـلِ الـمَغْـدُوْرْ
* * *
أَ ذُكُـــوْرَةُ هـذا الكَــوْنِ بِـــنـَـا؟
** أَمْ أَنَّ الأُنـْـثَـــى داءُ ذُكُـــوْرْ؟
هَـمَـسَـتْ ، فـارْتَـفَّ نَـوارِسـُـهـــا،
** وتَـكَـسَّــرَ صَمْـتٌ مِنْ بَـلُّـوْرْ:
أُنـْـثَـى .. ذَكَــرٌ .. ذَكَــرٌ .. أُنـْـثَــى،
** لا فَـرْقَ ، ضَحـايـا هُمْ ونُـذُوْرْ
تَـئِـدُ الأُنـْـثَـى الأُنـْـثَـى ، وتُـمَـــزِّ
** قُ شَـرْنَـقَـــةً أُنـْـثَى الزَّنْـبُـوْرْ!
وسَـيَـلْـتَـهِــمُ الجُـــبُّ يُـوْسُـفَـــهُ
** ويـُحَمْلِـقُ فـي وَجْهِـيْ كالعُـوْرْ
* * *
لا تُـغْمِـضْ عَـيْـنًا ، وافْـتَــحْ بِــــيْ
** فـي الشَّمْسِ نـَهارًا .. جَنَّـةَ حُـوْرْ!
وارقُصْ- قالتْ - رَقْـصَ «التَّـنْـغُـوْ»،
** بـِيْ مُلْـتَـحِـمًـا وبِـلا مَـحْـظُـوْرْ
تَـرَ (مَـرْيَــمَ) فـي عَـيْـنِـيْ تَصْحُـوْ
** و(خَـدِيْـجَـةَ) مِنْ شَفَـتَيَّ تَـفُـوْرْ
فالـمَــرأةُ مَعْـدِنُــــكَ الأَرْقَـــــى
** وبِمَعْـدِنِـكَ الأَرْقَـى سَـتَـثُــوْرْ!
1/ 5/ 2015
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 1 مايو 2015، ص38.
http://www.alraimedia.com/Articles.aspx?id=576172
|