لا يشهد تاريخ العرب، ولا تشهد نصوصهم، بشِعرها ونثرها، بآدابها وتواريخها وأخبارها، إلّا بنقيض ما ذهب إليه مؤلِّف كتاب "العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود" حول مكان (القُدس)، وتاريخ (بني إسرائيل)، و(أقصَى) الإسراء والمعراج، وأن ذلك كلّه في (فِلسطين) المحتلّة! لن أتحدّث عن العُهدة العُمَريَّة، بل عن العُهدة النبويَّة لبعض أهل تلك الديار، تتضمن من الأسماء والإشارات ما يمثِّل نقيض تلك التهويمات التاريخيَّة، البالغة في الادِّعاء حدَّ الزعم أن العرب أنفسهم كانوا يعرفون أن (إبراهيم) الخَليل وذرِّيته وبيت مَقْدِسهم كانوا يتأرجحون بين (عسير) و(بلاد غامد)، لا في فلسطين!
أوردَ (ابن فضل الله العمري، -749هـ)(1) وصف زيارة إلى مدينة (الخليل) الإبراهيمي، ومشاهدة العَهد الذي كتبه رسول الله إلى (تميم الداري)، فقال:
«...فلمَّا قضينا من الزيارة الأرَب، وهزَّتنا من النوبة الخليليَّة الطرَب، بعثتُ وراء الصاحب ناصر الدِّين أبي عبدالله محمَّد بن الخليليّ التميميّ الداريّ. وهو بقيَّة هذا البيت الجليل، والمُنتهي إليه النظر على وقف الحبيب سيِّدنا محمَّد، صلَّى الله عليه وسلَّم، وبلد أبيه إبراهيم الخليل. والتمسنا منه إحضار الكتاب الشريف النبويّ المكتتب لهم بهذه النَّطِيَّة، والمُشرِّف لهم به على سائر البريَّة. فأنعم بإجابة الملتَمَس، وجاء به أقرب من رَجْعِ النَّفَس. وهو في خِرقة سوداء من مُلْحَم قُطنٍ وحَرير، من كُمِّ الحسن أبي محمَّد المستضيء بالله أمير المؤمنين، وبِطانتها من كَتَّان أبيض على تقدير كُلِّ إصبع منه ميلان أسودان، مشقوقان بميل أبيض، جُعِل ضمن أكياس يَضُمُّها صُندوق من آبنوس، يُلَفُّ في خِرقة من حَرير. والكتاب الشريف في حِزْقَة من خُفٍّ من أَدَم، أظنُّها من ظَهر القَدَم. وقد مَوَّه سوادُ الجِلد على الخطِّ، لا أنَّه أذهبه، وما أخفَى من يَدِ كاتبه المشرَّفة ما كتبه. وهو بالخطِّ الكوفيّ المَليح القويّ. فقبَّلنا تلك الآثار، وتمتَّعنا منه بمَدَد الأنوار. ومعه ورقة كتبها المستضيء بنصِّه شاهدة لهم بمضمونه، ومزيلة لشَكِّ الشَّاكِّ المُريب وظنونه. ومضمون ما كتب كهيئته وسطوره: «نسخة كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي كتبه لتميم الداريّ وإخوته في سنة تسعٍ من الهجرة بعد منصَرَفه من غزوة تبوك في أَدَم من خف أمير المؤمنين عليٍّ وبخَطِّه، نسخته كهيئته: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أنطَى محمَّد رسول الله، لتميم الداريّ، وإخوته، حبرونَ، والمرطومَ، وبيت عَيْنون، وبيت إبراهيم، وما فيهنَّ، نَطِيَّةَ بَتٍّ بذِمَّتهم، ونَفَّذْتُ وسَلَّمْتُ ذلك لهم ولأعقابهم؛ فمَن آذاهم، آذاه الله، فمَن آذاهم، لعنه الله! شَهِدَ عتيق بن [أبو] قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكتب عليّ بن [بو] طالب وشَهِدَ»...هذه نسخة الكتاب الشريف. و«أبو قحافة»: ألف وباء وواو، ثم «قحافة»، و«بو طالب»: باء وواو، ثم «طالب». وليس في «بو» ألف. بُيِّن ذلك ليُعرف. و«كتب» في ذِكر عليٍّ رضي الله عنه مُقَدَّمة، و«شَهِدَ» مُؤَخَّرة. بُيِّن ذلك أيضا ليُعرف. وقد رأيت ذلك كُلّه بعيني، ومن خَطِّ المستضيء نقلت. وهو خَطُّه المعروف المألوف. وقد رأيته وأعرفه معرفةً لا أشكُّ فيها ولا أرتاب. وقرأتُه من الكِتاب النبوي نفسه. وهو موافِقٌ لما كَتَبَه المستضيءُ، نقلًا منه، على أن آثاره كادت لتعفَّى، وتحتجب عن الناس لفساد الزمان وتتخفَّى.»
هكذا نقل إلينا (ابن فضل الله العمري) تلك الوثيقة الخطِّيَّة، وبَيَّن نَصَّها بدِقَّة «ليُعرَف»- كما ذَكَر- ولكي يُستدلّ بها في دراسة التاريخ واللغة(2). وهذه المَواطن التاريخيَّة الفلسطينيَّة الواردة في الوثيقة المحمديَّة هي- حسب كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- نفسها الواردة في «التوراة». (حبرون): مدينة (إبراهيم) الخَليل، بالقُرْب من (بيت المَقْدِس)، وعاصمة (داوود) الأُولى، التي كان زعم (كمال الصليبي) أنها قرية (خربان)، في (المجاردة)! و(المرطوم): بلدة شَمال الخليل. و(بيت عَيْنون): قرية إلى الشَّمال من مدينة الخليل. ثمَّ (بيت إبراهيم). هكذا كان الرسول وصحابته يعرفون هذه المواضع في فلسطين، لا في عسير ولا في بلاد غامد. وكان العرب والمسلمون يعرفون تلك المَواطن الشاميَّة، ويعرفون لها قَدرها وقداستها وتاريخها، وما ارتابوا في ذلك قط كما ارتاب فيه المُبْطِلون.
ولقد قال مؤلِّف كتاب «العرب والساميون...»(3) كلمة حقٍّ، ناقضها كتابه؛ حيث قال في نتائجه:
«إن علم الآثار قد قال كلمته الصريحة حول أحداث مدونات التوراة، وهي أن لا وجود لهذه الأحداث آثاريًّا، (سواء في فلسطين أو في خارج فلسطين)، وإن المصدر الوحيد لدى العالم كله عمّن دعوه بـ«ملوك التوراة وحروبهم» إنما هي مدوّنات التوراة فقط.»
فكيف ارتأى هذه نتيجةً عن كتابٍ سخَّره من ألفه إلى يائه لتوطين ملوك التوراة وحروبهم وتاريخهم في وطنٍ آخَر؟!
وهذا سؤال وجّهناه إلى (الصليبي) قبله؛ فكلاهما يكرِّر أن علم الآثار قد فشل في العثور عن شواهد تاريخ (بني إسرائيل) في (فلسطين)، ومع ذلك فهما يجتهدان باستماتة للبحث عن ذلك التاريخ في الجزيرة العربيَّة! فتنقض نتائجُهم مقدماتهم ومقدماتُهم نتائجهم. لم يسعهم، إذن، تصوّر أن تلك المدوّنات والملاحم محض تراثٍ شعبي، تُهيمن عليه الأساطير، والتهويمات الدعائيَّة الشاعريَّة لشعب كان وباد، دفعته قداسة الأسلاف إلى صناعة واقعٍ معطًى متخيَّلٍ يعوِّض الواقع التاريخي والجغرافي المستبَى، أنشأه كتبةٌ بعُدت بهم الشقة زمانًا ومكانًا، كما رأينا في مقال سابق في سِفر (حزقيال)، على سبيل النموذج.
________________________________
(1) (2003)، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: عبدالله بن يحيى السريحي (أبو ظبي: المجمع الثقافي)، 1: 225- 227.
(2) فهي دالَّة على بعض ملامح اللغة العربيَّة إبَّان تلك المرحلة قبل التقعيد، وأن القواعد التي وضعها النُّحاة لم تكن مطَّردة في لسان العرب كُلَّ الاطِّراد، ولكن لعلَّها كانت الغالبة في الاستعمال على لغة الحجاز ووسط الجزيرة، كما تطرَّقنا إلى هذا في مقال سابق في "الراي"، تحت عنوان «استنبَطَ العُرْبُ في الموامي!»:
http://www.alraimedia.com/ar/article/culture/2013/07/11/423966/nr/nc
(3) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 334.
#فلسطين
#وثيقة
#التاريخ
5 أغسطس 2016
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، الاثنين 11 يولية 2016، ص14.
http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2016/7/11/pCQgtFwvT2wQZWXW00hCowplusplus/P014.pdf
|