قالت «التوراة»: «وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ إِلَى مَكَانِ شَكِيمَ إِلَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ، وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ، وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ»!»(1) كما قال الربُّ: «أُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا!»(2) ولا غرو، فـ(كنعان) نفسه كان ملعونًا من قَبل، على لسان الربِّ اليهودي «العنصري»: (يَهْوَه)، لسببٍ غير واضح. فهذا الإله غريب الأطوار، حسب صورته في الكتاب المقدَّس، يذكِّرك ببعض الشخصيَّات في أفلام الأطفال «الكرتونيَّة». والعقل البشري في تلك المرحلة الإنسانيَّة كان أشدَّ طفوليَّة من عقل أطفال اليوم، يقتات على الخيالات الأُسطوريَّة، ممجِّدًا الأبطال المتأبِّطين بالتوحَّش والنَّزَق، معتقِدًا أن الإله لا بُدَّ أنه بطلٌ مثل أولئك الأبطال الشعبيِّين، غير أنه أكبر منهم وأعظم وأفتك وأشدّ تدميرًا! وكلَّما ازداد البطل غرابةً وفتكًا، ازداد مهابة وقداسة.
والنصّ في «العهد القديم» ينطوي، كما ترَى، على تصوير هؤلاء القوم العبرانيِّين رحَّالين، لا أرض لهم، يحلمون بأرضٍ، كسائر الأقوام، تُقِلُّهم، وبديارٍ تُؤويهم. وهذا أمرٌ طبعيٌّ؛ لأنهم إنَّما جاؤوا لاجئين إلى أرض (كنعان)، قادمين من (أُور) الكلدانيَّة في (العراق)، لا تُراب لهم في (الشَّام) ولا تُراث. وامتلاك الشعوب أراضيها لا يكون إلَّا بالوراثة القوميَّة، عن الآباء والأجداد، أو بالشِّراء. أمَّا هؤلاء، فقد أرادوا اختصار الأمر على أنفسهم؛ إذ لا إرث يسوِّغ لهم امتلاك أرض كنعان، ولا قُدرة لهم على الشِّراء، أو لا رغبة لهم فيه، أو لا قبول من أرباب البلاد الأصليِّين للبيع. فما الحلّ؟
لا حلَّ، إذن، إلَّا بالسَّطْو المسلَّح، ووضع اليَد على بلدان الآخَرين، وإخلائها من أهلها بالقُوَّة، ولا أسهل حينئذٍ من التسلُّح بوعدٍ عُلويٍّ سماويٍّ إلاهيٍّ، وتوريثٍ ربَّاني! وما العجيب في هذا السلوك الاستغلالي؟ فلقد نَسبت «التوراةُ» إلى (إبراهيم) ما هو أشنع، من استغلال كلِّ وسيلةٍ إلى غاياته المادِّيَّة. بما في ذلك استغلال أنوثة امرأته (سارة)، واستثمار جمالها في عيون المِصْريِّين، زاعمًا أنها أخته لا زوجه، كي يحظَى لديهم بما يحظَى. ونجحت خِطَّته الماكرة، فأعجبت المرأةُ المصريِّين جِدًّا، وصار لإبراهيم، من وراء ذلك الإغواءِ، المالُ الوفير: «وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ... وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ». فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدًّا. وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ، فَأُخِذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ. فَضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ. فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَبْرَامَ وَقَالَ: «مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟ لِمَاذَا لَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّهَا امْرَأَتُكَ؟ لِمَاذَا قُلْتَ: هِيَ أُخْتِي، حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي لِتَكُونَ زَوْجَتِي؟ وَالآنَ هُوَذَا امْرَأَتُكَ! خُذْهَا وَاذْهَبْ!». فَأَوْصَى عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ رِجَالًا فَشَيَّعُوهُ وَامْرَأَتَهُ وَكُلَّ مَا كَانَ لَهُ.» (3)
وبهذا- حسب كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- جعل مصنِّفو «التوراة» (فرعونَ) أنبلَ من (إبراهيم) وأعقلَ وأتقَى!(4) بل إن تصوير هذه «الوصوليَّة» قد بلغ في موضعٍ آخر من «التوراة» إلى تصوير احتيال (يعقوب) على أبيه، كفيف البصر، وترتيب تمثيليَّةٍ مع أُمِّه (رِفقة) كي يظنَّ (إسحاق) أن يعقوب هو أخوه (عيسو) فيباركه. وتمَّ له ذلك، وباركه (إسحاق)، ظانًّا إيَّاه عيسو.(5) وبهذا المشهد الهزلي جعلت «التوراة» البركة رهينةَ الإنسان، لا بِيَد الله، ومَثَّلتْها قابلةً لممارسة المكر والاحتيال والكذب على أيدي الأنبياء البَرَرة! فأيُّ كتابٍ ساخرٍ بقِيَم الألوهيَّة والنبوَّة والإنسانيَّة هذا الذي سَطَّره كهنة (بني إسرائيل)؟! وأيُّ دِينٍ هذا الذي يُشرعِن الكذب، والتزوير، وارتكاب الخطايا والفواحش، ويجعل ذلك كلَّه مناط القُدوة الأخلاقيَّة لأتباعه، ويسجِّله في كتابهم المقدَّس، الذي ينسبه إلى الخالق، مخلِّدًا فيه شواهدَ بيِّنةً لمَن شاء أن يتأسَّى بأبناء الله وأحبائه ومختاريه من خلقه! يفرِّق فيه الآباءُ بين أولادهم، والأُمَّهات بين أولادهن، مُوغِرينَ صدور بعضهم على بعض، مُوقِعين بينهم العداوات والأحقاد والثارات. والأبناء بدَورهم ما ينفكُّون يَحُوْكُون المؤامرات على الآباء والإخوة، لنيل أنصبةٍ أكبر من الفرائس. فيا لها من أُسَرٍ نبويَّةٍ صالحةٍ سعيدة! ولا غرابة، ما دامت تلك أخلاقهم في ما بينهم، أنْ تتَّسِم أخلاقُهم مع سِواهم بما هو أدهَى وأفظع. تلك هي السِّيرة التوراتيَّة لأنبياء بني إسرائيل، وهي تُصوِّر اللهَ شريكًا في إمضاء ما تَسرُد من سلوكيَّاتٍ منحطَّة- حتى بمعايير أحطِّ الأُمم الوثنيَّة- أو تصوِّره مستغفَلًا من أذكياء بني إسرائيل وعباقرتهم، الذين لا ريب أنَّ عقليتهم البدائيَّة التي سوَّغت احتيال يعقوب على أبيه إسحاق، ثمَّ قصَّت احتيال أبناء يعقوب على يعقوب، لا بأس لديها في أنْ يكون الله نفسه- الذي يَعُدُّوْنه أباهم الأعلى- محتالًا أكبر أيضًا ومحتالًا عليه. ولا عجب، فصورة الربِّ لدَى هؤلاء قد بَدَتْ باستمرارٍ صورةً بَشريَّة، حمقاء، مبتذلة، حتى إنَّ الاعتراف بألوهيَّته كانت مشروطةً لديهم بما يقدِّمه لهم من خدمات، وبما يمنحهم إيَّاه من هِبات، كما جاء على لسان (يعقوب): «وَنَذَرَ يَعْقُوبُ نَذْرًا قَائِلًا: «إِنْ كَانَ اللهُ مَعِي، وَحَفِظَنِي فِي هذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَنَا سَائِرٌ فِيهِ، وَأَعْطَانِي خُبْزًا لآكُلَ وَثِيَابًا لأَلْبَسَ، وَرَجَعْتُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِ أَبِي، يَكُونُ الرَّبُّ لِي إِلهًا، وَهذَا الْحَجَرُ الَّذِي أَقَمْتُهُ عَمُودًا يَكُونُ بَيْتَ اللهِ، وَكُلُّ مَا تُعْطِينِي فَإِنِّي أُعَشِّرُهُ لَكَ».»
ذلك الكتاب الأُسطوري هو، إذن، ما قدَّسته طائفةٌ دِينيًّا، وأوشكت أن تُقدِّسه طائفةٌ أخرى تاريخيًّا، وليس له كبير حظٍّ من القداستَين، بمقدار ما كان كتابَ أحلامٍ، وسياسةٍ، فاضت بها أساطير الأوَّلين.
________________________________
(1) سِفر التكوين، 12: 6- 7.
(2) م.ن، 17: 8.
(3) م.ن، 12: 11- 20.
(4) وتحكي «التوراة» أن (إبراهيم) كرَّر ذلك مع (أبيمالك)، مَلِك (جَرار). وما كانت حُجَّة إبراهيم إلَّا أنْ قال: «إِنِّي قُلْتُ: لَيْسَ فِي هذَا الْمَوْضِعِ خَوْفُ اللهِ الْبَتَّةَ، فَيَقْتُلُونَنِي لأَجْلِ امْرَأَتِي. (وَبِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا هِيَ أُخْتِي ابْنَةُ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتِ ابْنَةَ أُمِّي، فَصَارَتْ لِي زَوْجَةً.) وَحَدَثَ لَمَّا أَتَاهَنِي اللهُ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَنِّي قُلْتُ لَهَا: هذَا مَعْرُوفُكِ الَّذِي تَصْنَعِينَ إِلَيَّ: فِي كُلِّ مَكَانٍ نَأْتِي إِلَيْهِ قُولِي عَنِّي: هُوَ أَخِي». فَأَخَذَ أَبِيمَالِكُ غَنَمًا وَبَقَرًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً وَأَعْطَاهَا لإِبْرَاهِيمَ، وَرَدَّ إِلَيْهِ سَارَةَ امْرَأَتَهُ. وَقَالَ أَبِيمَالِكُ: «هُوَ ذَا أَرْضِي قُدَّامَكَ. اسْكُنْ فِي مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْكَ»...». (م.ن، 20: 11- 15). ثمَّ بعد هذا مباشرة تُوْرِد التوراة «المعجزة الإلهيَّة» في مولد (إسحاق) لإبراهيم، على الرغم من شيخوخته، وهو ما كان مثار ضَحِك (سارة) نفسها! واسم إسحاق مشتقٌّ من ذلك الضَّحِك. ونظائر هذا كثيرة مشتهرة في قصص الكتاب المقدَّس الجنسيَّة والدمويَّة التي تنتظم التوراة، حتى لقد كوَّنت، على سبيل النموذج، مادة خصيبة ومثيرة لكتبٍ ككتاب (كريتش، جوناثان، (2005)، حكايا محرَّمة في التوراة، ترجمة: نذير جزماتي، (دمشق: دار نينوى))، ومن ذلك قصّة نوح مع أبنائه، ولوط مع بناته، وداوود مع بتشابع أُمّ سليمان؛ ليتساءل المؤلِّف- في نهاية تلك السِّلسلة من الحكايات اللا أخلاقيَّة-: عن ذلك العبقريِّ الذي كتبَ «العهد القديم»؟!
(5) انظر: سِفر التكوين، الإصحاح 27.
#فلسطين #التوراة #يهوه #مقال
6 سبتمبر 2016
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، الخميس 1 سبتمبر 2016، ص18.
http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2016/9/1/qBYHT9WHjSHoXmDK7bCWIAplusplus/P018.pdf
|