في فصلٍ تحت عنوان «مِصْر وجزيرة العرب»، وفي زعمٍ معنون بـ«تحتمس في جزيرة العرب»، يورد مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» أُولى قوائمه من لوائح الأسماء الواردة عن المواقع أو الشعوب التي أخضعتْها قوات (تحتمس الثالث)، المثبتة في (معبد الكرنك)، وهي «قائمة فلسطين»، ثمَّ يُتبعها بقائمةٍ استكماليَّة هي «قائمة نهارينا أو القائمة الشماليَّة». وهو يرفض أن تكون القائمة الأولى متعلِّقة بـ(فلسطين)، مبحرًا في معجم الأسماء في جزيرة العرب، ذاكرًا للاسم الواحد عدَّة احتمالات متنافرة، لا تجمعها إلَّا تشابهات الحروف. معيدًا افتراضات أستاذه (كمال الصليبي)، وإنْ بصورةٍ مُجَدْوَلَة. غير متسائل بعدئذٍ عن تلك الأسماء، ولا عن مواقعها الدقيقة، ولا عن تاريخ وجودها، ولا عن منطق ربطها بالأسماء الواردة في مغازي تحتمس الثالث. ليس هناك سوى تشابهات الحروف. من أمثلة ذلك في القائمة الأُولَى ما يأتي:
1- استبعد أن يكون المكان المسمَّى (تتين) هو: (دوثان) جنوب غرب (جنين)، في (فلسطين)، بل هو، بزعمه، (دثنة)- كذا- في (جازان)، ضمن احتمالات أخرى.(1) وهو هنا يكرِّر كلام (الصليبي) حول (الدَّثْنَة) في جبال (فَيْفاء)، دون أن يعيِّن المكان، بل اكتفى بالقول إنها في جازان؛ لأنه لا يعلم أين يقع هذا المكان. كما لم يعلم، لا هو ولا أستاذه، أن في فَيْفاء وحدها ثلاثة مواضع بهذا الاسم، لا موضعًا واحدًا، تقدَّم ذِكرها في مناقشتنا لافتراضات الصليبي. وفي غير فَيْفاء مثل ذلك الاسم أيضًا. بل هناك موضع بمِصْر باسم (الدَّثِيْنة)، وآخر باسم (الداثِن) في (غَزَّة الشام).(2)
2- يزعم أن (مرم) «تقع في منطقة فيفا وأخرى في جيزان!» (3) وها قد صارت (فَيْفاء) منطقة قائمة بذاتها مستقلَّة! وهذا من المؤشِّرات على أن هؤلاء كثيرًا ما لا يعلمون عمَّا يتحدَّثون! وهو يشير بكلامه إلى مكانٍ في فَيْفاء يُطلق عليه (بُقعة المَرْمَى) في جبل (آل المَشْنِيَة). أمَّا علاقته بـ(مرم)، فلا علاقة، ولا تعليق. كلّ ما هنالك أن بين الاسمين جناسًا ناقصًا!
3- يرَى أن المكان المسمَّى (روس)، من ضمن احتمالات أخرى كالعادة، قد يكون: «الريث/ ريث في منطقة رجال ألمع وفي القصيم!»(4) وانتقال (الريث) إلى (رجال ألمع) دليلٌ آخر على الدقَّة المتناهية في هذه البحوث، وعلى دراية مؤلِّفيها بالمواضع التي جاؤوا ليفسِّروا من خلالها التاريخ والجغرافيا؛ على سُنَّة القائل:
وإنِّي وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُهُ * * لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل!
4- أمَّا (عكَّة)، فليست على الساحل الفلسطيني، بل «الاحتمال الأقوى العكوة/ عكو في جيزان»!(5) ولا ندري لِمَ كان هذا الاحتمال هو الأقوى؟ وأيّ العكوات في (جازان) هي الاحتمال الأقوَى لديه؟ فهناك عَكْوَة: أكمةٌ، ذات فوَّهة بركانيَّة، تُرى من بعيدٍ مربَّعة الشكل، تَبْعُد عن (صَبيا) نحو 15 كيلًا شرقًا، على طريق صَبيا إلى (العَيدابي). وشَمال عَكْوَة أكمةٌ بركانيَّة أخرى أصغر، ويُطلق عليهما: «العَكْوَتَين». وهناك أيضًا عَكْوَتان في الطَّرَف الجنوبي الشرقي من جبل (مَصِيْدَة)، المصاقب لجبل (حريص الحَشَر). إنه- حسب كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- سُوْقٌ من الأسماء يمكن أن تنتقي منه ما شئت، إذا كانت غاية بحثك ظاهرة التشابه بين الأسماء.
ثمَّ أعقب هذه التخمينات العجيبة بقوله: «مما سبق يبدو واضحًا للقارئ [ولا بد](6) أنه من الممكن العثور على الأسماء الواردة في القائمة الأُولى، وبأقل درجة من الاستعانة بظاهرة القلب والاستبدال.»(7) وما يبدو واضحًا حقًّا [ولا بد] أنه من الممكن حسب هذا المنهاج السطحي العثور في جزيرة العرب على كل الأسماء الواردة في أي مكان أو زمان، ما اكتفى المرء بتشابه الحروف.
أمَّا «قائمة نهارينا أو القائمة الشماليَّة»، فنقف منها لديه على ما يأتي:
1- (ن.ء.ف.ي): «ضمن العديد من الاحتمالات: نافية/ نءفيه في جيزان»!(8) وهو لا يعرف أين تقع (نافية) هذه، فلم يحدِّد مكانها. ونافية اسم مكان في (مَدَر)، من جبال (فَيْفاء)، تقع ضمن الأراضي التابعة لقبيلة (آل أبي الحَكَم) اليوم. وهناك «أُنافية»، التي ذكرها (الهمداني) في «صفة جزيرة العرب»(9)، والتي يشير إليها تارة: «من وسط سراة خولان وغورها»، وتارة أخرى في ناحية (بَيش). وفي فَيفاء أيضًا: «مَنَفَة». وحدِّث ولا حرج من نظائر هذه الأسماء.
2- أمَّا (ء.ن.ب.ن)، فيقول: «ربما المقصود قبيلة العتبان/ عتبن الحجازيَّة. احتمال آخر هو أن الاسم يشير إلى تبالة/ تبءلة في سراة عسير»!(10) ونضيف إليه احتمالًا ثالثًا، وهو الأرجح، أن لا يكون المقصود أيًّا من الاحتمالين السابقين! ما لا ينقضي منه العجب لدى هؤلاء أن أحدهم لا يكلِّف نفسه مجرَّد السؤال: متى وُجِد هذا الاسم؟ فـ(عُتَيْبَة)، الذي ينتسب إليه (العُتيبيُّون)، أو «العتبان»، جَدٌّ متأخِّرٌ جدًّا في التاريخ العربي. وقبيلته فرع من (هوازن)، لا ذِكر لها قبل القرون الإسلاميَّة المتأخِّرة. غير أنَّ (زياد منى) يطرح علينا احتمالًا بوجود قبيلة عُتَيْبَة بهذا الاسم من قَبل (طسم وجديس)، أي منذما قبل (تحتمس الثالث، -1425ق.م)، وأنه قد أشير إليها في تاريخ غزوات هذا الفرعون!
3- وأمَّا (ف.ف.ء)، فذهب إلى احتمال أنه «جبل فيفا/ ففء»!(11) وها قد شملتنا بركات هذه التحليلات؛ فجبال فَيْفاء هي تارة «جبل جلعاد» التوراتي لدى (الصليبي)، وتارة أخرى هو «ففء»، المشار إليها في غزوات (تحتمس الثالث)، لدى (مُنى). وهذا ينفي، إذن، أن اسم (فَيْفاء) حادثٌ كما يرى بعض الباحثين؛ لأنه لم يُشِر إليه (الهمداني) في كتابه «صفة جزيرة العرب»، أو غيره من الأقدمين، كلَّا، بل هو اسمٌ يعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ولا فخر!
ويُعقِب هذا العرض «الخنفشاري» بالقول، وبكلِّ ثقة: «سأكتفى بما وصلتُ إليه من براهين»!(12) ولديه مزيد من البراهين طبعًا، لكنه- رأفةً بالقارئ- سيكتفي بما سبق. فإذا كان ما قدَّم ينسلك في مفهوم «البراهين»، فقل على البرهنة السلام.. بل قل على العِلْم السلام!
[وللحديث بقيَّة]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 72.
(2) راجع كلامنا حول مزاعم (الصليبي) عن هذا المكان، في مقالاتنا السابقة عن كُتُب الصليبي.
(3) انظر: مُنى، 72.
(4) م.ن، 75.
(5) م.ن، 77.
(6) لاحظ هنا حذوه حذو أستاذه (الصليبي) في «لا بُدِّيَّاته» و«لا شَكِّيَّاته» المعهودة، السابق وقوفنا عليها في تضاعيف كُتبه!
(7) مُنى، 88.
(8) م.ن، 93.
(9) انظر: (1974)، تحقيق: محمَّد بن علي الأكوع الحوالي (الرِّياض: دار اليمامة)، 117، 126، 250.
(10) مُنى، 93.
(11) م.ن، 94.
(12) م.ن، 99.
#مصر
#جزيرة_العرب
#مقال
13 أكتوبر 2016
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، الأحد 9 أكتوبر 2016، ص20.
http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2016/10/9/UOWlJfGO954MO8aT8u4eLgplusplus/P020.pdf
|