في الفصل الخامس من كتاب «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير»، تحت عنوان «التوراة وجزيرة العرب»، أراد المؤلِّف أن يزعم أن أرض (كوش) المذكورة في التوراة تقع في (عسير)، لا في (الحبشة)، فرجع إلى (ابن المجاور) في كتابه «تاريخ المستبصر»، دون توثيق، كما هي عادته. فاقتنص كلمة دندنَ عليها، نَهْجَ أستاذه (كمال الصليبي)، الذي وقفنا عليه من قَبل في تعامله التلبيسي مع كتابَي «الإكليل» و«التيجان». قائلًا: «إن رأيي هذا يلقَى دعمًا من قبل بعض كتابات الإخباريين العرب، وخاصَّة اليمانيين منهم.» كيف؟ استشهد بابن المجاور- الذي ليس من اليمانيِّين، أصلًا(1)، وإن ألَّف كتابه حول بلاد (اليَمَن)- حيث قال، في سياق حديثه عن «صفة زَبيد»: «تسمَّى أرضها [أي أرض زَبيد]: تهامة... وتسمَّى [أي زَبيد] في عدن: الشام، وتسمَّى في المَهْجَم: اليَمَن، وتسمَّى عند آل عمران: كوش، وتسمَّى باللغة المعروفة: زبيد.» (2) وعلَّق صاحبنا بقوله: «وهكذا تتضح الصورة بشكل كامل، فأرض كوش التوراتيَّة لم تكن الحبشة، وإنما هي بعض من إقليم عسير. ومن الواضح أن هذه المسألة كانت معروفة لدى الإخباريين العرب، ومنهم من اهتم بتسجيلها.»(3) وهنا نقف مع هذا الزعم لبحث حقيقته:
1- ما علاقة (زَبيد) بإقليم (عسير)؟! لقد كان (ابن المجاور) يصف زَبيد، الواقعة في دولة (اليَمَن) اليوم، ولا علاقة لذلك بإقليم عسير.
2- من أين جاء المؤلِّف بأن مسألة «أرض كوش كانت في عسير» من المسائل المعروفة لدى الإخباريِّين العرب، ومنهم من اهتم بتسجيلها؟
3- أ وَحقًّا اتضحت الصورة بشكلٍ كامل، بأن أرض (كوش التوراتيَّة) لم تكن (الحبشة)، وإنَّما هي بعضٌ من إقليم (عسير) أو غير إقليم عسير من الجزيرة العربيَّة؟! وأن هذه المسألة كانت معروفة لدى الإخباريين العرب، ومنهم من اهتم بتسجيلها؟! أم هذا ضربٌ من التدليس على القارئ؟ أ لم يقل (ابن المجاور) أيضًا إن أهل (عَدَن) كانوا يدعون تهامة (زَبيد) بـ«الشام»؟ أ فيصحّ لقائل أن يقول- وفق طريقة المؤلِّف في الاستدلال-: «وهكذا تتضح الصورة بشكل كامل، فأرض الشام لم تكن بالشام المعروف اليوم، وإنما هي بعض من إقليم عسير، ومن الواضح أن هذه المسألة كانت معروفة لدى الإخباريِّين العرب، ومنهم من اهتم بتسجيلها»؟!
4- لكن لماذا تُسمَّى تهامة (زَبيد) أحيانًا بـ«كوش»؟ إنما ذلك وصف لأهلها، ولا يحتمل الاستنتاج الكبير بأن أرضهم هي أرض (كوش التوراتيَّة). ذلك أن العرب يقولون عادةً للأسود من الناس: كُوشيّ، أو ابن كوشيّ، وللسُّود من الناس: كُوش، نسبةً إلى (كُوش ولد حام بن نوح). وأهل تلك الجهات من (اليَمَن) معروفون إلى اليوم بسُمرة البشرة. ولا يكون الموصوف بالضرورة حبشيًّا، فضلًا عن أن تكون أرضه أرض كوش.(4) ولقد وصفَ (ابن عبدالمنعم الحِمْيَري)، وهو من أبناء اليَمَن، في كتابه «الروض المعطار في خير الأقطار» تلك البلاد بما يكشف عِلَّة وصف أهلها بكُوْش، ويَدرأ الاستنتاج المسرف في شطْحه الذي ذهب إليه (زياد مُنَى)؛ وذاك لأسباب تاريخيَّة وجغرافيَّة وإناسيَّة، متعلِّقة بلون البشرة في أهل تلك الناحية من اليَمَن. فقال الحِمْيَري: «كعبر: هي دار مملكة الحبشة، وسِمة مَلِكهم النجاشي. وفيها الذي كان آمن برسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم من ولد حبشي بن كوش بن حام. وللحبشة مدنٌ كثيرة وعمائر واسعة تتصل بالبحر الحبشي، وساحل الحبشة مقابلٌ لبلاد اليَمَن، وهي من شاطئ البحر الغربي، وأقرب عرض البحر هناك ثلاثة أيام، وهو ساحل زَبيد من أرض اليَمَن، ومن هذا الموضع عَبَرَتْ الحبشة البحر في أيام ذي نواس، وهو صاحب الأخدود.» بل إن (ابن المجاور)(5)، نفسه الذي استعان به مؤلِّف «جغرافية التوراة»، قد وصف أهلها بأنهم «سُمْرٌ كُحل». وذكر أن (الحبشة) كانوا ملوكها. فهذا، إذن- حسب كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- هو معنى وصف زَبيد بكُوْش، بعيدًا عن التمحُّلات البعيدة من أجل الادِّعاء أن أرض كُوْش التوراتيَّة لم تكن الحبشة، وإنَّما هي بعض من إقليم (عسير). وهو كذلك ظاهرُ ما ورد في (العهد القديم، أخبار الأيام الثاني)(6): «وَأَهَاجَ الرَّبُّ عَلَى يَهُورَامَ رُوحَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَالْعَرَبَ الَّذِينَ بِجَانِبِ الْكُوشِيِّينَ، فَصَعِدُوا إِلَى يَهُوذَا وَافْتَتَحُوهَا، وَسَبَوْا كُلَّ الأَمْوَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ بَنِيهِ وَنِسَائِهِ أَيْضًا.» من حيث إن عرب جنوب الجزيرة يُعَدُّون بجانب الكُوشِيِّين الأحباش في الضفَّة المقابِلة من (البحر الأحمر)، لا على أن الكُوشِيِّين كانوا في الجزيرة العربيَّة، أو أن العرب كانوا في الحبشة، ولكن للجوار الذي وصفه (الحِمْيَري) في الاقتباس الآنف، في قوله: «وساحل الحبشة مقابل لبلاد اليَمَن... وأقرب عرض البحر هناك ثلاثة أيام، وهو ساحل زَبيد من أرض اليَمَن». فيصحّ، بهذا، القول: «العَرَبَ الَّذِينَ بِجَانِبِ الكُوشِيِّينَ»، دون حاجةٍ إلى ادِّعاءٍ خياليٍّ أن الفريقَين كانا في (جزيرة العرب)، أو كانا في الحبشة. حتى إن ابن المجاور(7)، مرةً أخرى، قد روى أن (بحر القلزم) لم يكن بحرًا فاصلًا بين الجزيرة العربيَّة وأفريقيا، وإنما افتتح خليجه الفاصل بينهما (ذو القرنين). ومع أن ذا القرنين شخصيَّة غير معروفة تاريخيًّا على وجه اليقين، ومن غير المحتمل أن يكون ما نُسب إليه من افتراع البحر الأحمر معقولًا، ولاسيما إنْ قيل إنه (قُورش، -529ق.م) أو (الإسكندر المقدوني، -323ق.م)، أو غيرهما من أعلام التاريخ المتأخِّرين نِسبيًّا؛ لأن البحر كان موجودًا من قبل تاريخهم بدهور داهرة، كافيك عن أنه من قبل التاريخ المُدوَّن. وعلى الرغم من أن أخبار ابن المجاور لا ترقى إلى الاعتداد بها عِلْميًّا، فإن في ما نقله من موروثٍ إخباريٍّ مؤكِّدًا إشاريًّا لما ذكرناه من قُرب الشُّقَّة بين اليَمَن والحبشة، ومن ذاكرة وصف «كوش» قديمًا.
[وللحديث بقيَّة]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نَسَبَه (الزركلي، خيرالدِّين، (1984)، الأعلام، (بيروت: دار العِلْم للملايين)، 8: 258) إلى (دمشق). وكذا فعل (الصليبي، (1991)، حروب داود، (عمَّان: دار الشروق)، 26). وسمّاه الزركلي: «يوسف بن يعقوب بن محمَّد بن علي الشيباني الدمشقي، أبو الفتح، جمال الدِّين ابن المجاور». ووصفه بأنه مؤرِّخ، عالم بالحديث، ومن الكتّاب. تاريخ حياته: (601- 690هـ= 1205- 1291م). في حين نجد في كتاب (ابن المجاور، (1996)، صفة بلاد اليَمَن ومكّة وبعض الحجاز المسمّاة: تاريخ المستبصر، باعتناء: ممدوح حسن محمَّد (القاهرة: مكتبة الثقافة الدِّينيّة)، 281) قول المؤلِّف: «وكتب والدي محمَّد بن مسعود بن علي بن أحمد بن المجاور البغدادي النيسابوري...». ومن عجبٍ أن الزركلي قد هَزِئَ بما أشار إليه (جعفر الحسني)، في (مجلَّة المجمع العلمي العربي، 32: 383)- حسب توثيق الزركلي- من تنبيهٍ إلى هذا؛ قائلًا: «فليبحث عن البغدادي النيسابوري هذا ويترجم له بدلًا من ابن المجاور الدمشقي»! وكأن الزركلي قد بات أعرف باسم ابن المجاور وبنسبه من ابن المجاور نفسه! (وانظر أيضًا: مقدِّمة ناشر كتاب «تاريخ المستبصر»، 5- 6). أمّا نعتُ الزركلي ابنَ المجاور هذا بالمؤرِّخ، والعالم، والكاتب، فيكذِّبه كتابه؛ الدالّ في بعضه على أن مؤلِّفه أشبه بحاطب ليل، من حيث المحتوى، ركيك الأسلوب، كثير الغلط في النحو واللغة. ولذا فمؤلِّف الكتاب ليس بابن المجاور الدمشقي الموصوف بالعِلْم، بل هو ابن مجاور آخر، بغدادي نيسابوري. ويبدو لي أن الرجل فارسيُّ الأصل. تؤكِّد هذا أمور، منها:
1- نسبته والده إلى (نيسابور).
2- استشهاده بشِعرٍ فارسيٍّ، من نظمه هو ونظم غيره، (انظر مثلًا: 100- 101، 264). وهو اهتمام لافت في موضوعات لا تستدعي سرد شِعر بالفارسيَّة، على افتراض معرفته بها، لغةً لا انتماءً.
3- ترديده القول ببناء (الفُرس) بعض المُدُن في (الحجاز) و(اليَمَن).
4- أنفاس شعوبيَّة من إعلاء شأن (الفُرس) ووصف (العرب) بالنقائص، حتى إنه ليعزو الحُمق إلى العرب، في مثل قوله عن (جزيرة قيس/ كيش) بـ(الخليج العربي): «وإلى الآن في رؤوس الفُرس [في تلك الجزيرة] حماقة العرب!»؛ لأن أخوالهم، كما قال، عرب. (انظر: 320).
5- أضف إلى ذلك ركاكة أسلوبه، البالغة حدّ العُجمة أحيانًا.
(2) ابن المجاور، 99-100.
(3) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 104.
(4) انظر: الصفدي، صلاح الدِّين، (1987)، تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، تحقيق: السيد الشرقاوي؛ مراجعة: رمضان عبدالتوّاب (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 447.
(5) انظر: 102، 113.
(6) الإصحاح 12: 16- 17.
(7) انظر: 113.
#التوراة
#جزيرة_العرب
#مقال
21 أكتوبر 2016
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 18 أكتوبر 2016، ص24.
http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2016/10/18/ggUt1abQUwXy0b2GjD09awplusplus/P024.pdf
|