من منطلق اقتفاء مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» آثارَ معلِّمه (كمال الصليبي)، وترداد أطروحاته، أراد عَبْرَنة (عسير)، كما فعل أستاذه، لتتلئبَّ له الرفضيَّات الكماليَّة الصليبيَّة في «أسرلة» المَواطن في الجزيرة العربيَّة. أراد أن يسلخ عسيرًا من تاريخها العربي المعروف، مدوَّنًا وغير مدوَّن، ليُلحِقها بالعبرانيَّة والعبرانيِّين، وينسبها إلى (بني إسرائيل)، أو ينسب بني إسرائيل إليها. فأضاف إلى أكذوبة أن أصل اسم «عسير» هو الاسم التوراتي: «سعير» واحدة أخرى، قائلًا: «ويتم التنقل بين مناطق السَّراة وتهامة عبر مجموعة من المعابر الطبيعيَّة قرب رؤوس الجبال تسمَّى بالعربيَّة «العِقاب». بينما يطلق السكان المحليّون عليها اسم الشعار.» (1) وبذا فإن أهل عسير- حسب زعم المؤلِّف- يُطلِقون على العقبات اسمًا ذا أصل عبراني، هو: «الشعار»، يمتح من جذور لغة أهل عسير العبرانيَّة! وسيَـفهم مَن لا يعرف المنطقة أن أهلها فعلًا يُطلقون على كلِّ عقبةٍ «الشعار»! والصحيح أن هناك عقبة معروفة تُضاف إلى «شعار»؛ فتُسمَّى: «عقبة شعار».
لكن ثالثة الأثافي جاءت في زعمه أن كلمة «شعار» كلمة عِبريَّة، لا عربيَّة، قائلًا: «ومن الجدير بالذكر أن الاسم المحلّي ليس عربيًّا، وإنما هو عبري يرد في العهد القديم بمعنى باب معبر!»(2) ولئن كانت بضاعة الرجل في اللغة العربيَّة مزجاة، فقد كان من بدهيَّات العمل البحثي أن يعود إلى اللغة العربيَّة، في مثل هذا الموضع على الأقل، قبل المجازفة بنفي عربيَّة هذه الكلمة ونِسبتها إلى العِبريَّة، ومن ثمَّ نِسبة أبناء (عسير) إلى اللغة العبريَّة. لكنه لم يفعل. وإلَّا لعرف، أوَّلًا، أن كلمة «شعار» ليست باسم للعقبات بإطلاق، ولا حتى لـ«عقبة شعار» بخاصَّة، وإنما هي وصفٌ أطلقه الناس على تلك العقبة. ثمَّ لعرف، ثانيًا، أنه وصفٌ لطبيعتها النباتيَّة وللشجر عليها؛ فالشَّعارُ- في لسان العرب، لا لسان العبرانيِّين- هو: الشجر الملتف. قال شاعر العرب، لا شاعر العبرانيِّين، يصف حمار وحشٍ:
وقَرَّبَ جانبَ الغَرْبيّ يَأْدُو
مَدَبَّ السَّيْلِ، واجْتَنَبَ الشَّعارَا
يقال: أَرض ذات شَعارٍ، أي ذات شجر، كما يمكن أن يقال «عقبة شَعارٍ»، أي ذات شجر. وفي الكلمة لغتان: شَعار وشِعار، بفتح الشين وكسرها. (3)
فانظر إلى أين يذهب هؤلاء التوراتيُّون «المُعَبْرِنُون» لبلدان العرب وتاريخهم ولغتهم؟! إنهم لا يلتفتون إلى تاريخ العرب، ولا إلى لغتهم، إلَّا إذا لزمهم الأمر لدعم دعاواهم، مجتزئين، منتقين، متقوِّلين، ليكشفوا من خلال ذلك عن جهلهم، وعوار منهجيَّاتهم في البحث، ومستوى أماناتهم في النقل، ومدى عِلْمِيَّتهم في الاستنتاج.
ولم يكتف صاحب «جغرافية التوراة» بمثل هذا، من ادِّعاء الأصول العِبريَّة للكلمات العربيَّة، وربط الأسماء التوراتيَّة بأسماء في جزيرة العرب- لمجرَّد توافقات في بعض الأصوات اللغويَّة- بل خَطَا خطوة أخرى، تجعل باب الادِّعاء مفتوحًا على مصراعيه، فما لا تظهر علاقةٌ لفظيَّة له باسم من أسماء الأماكن أو القبائل في الجزيرة العربيَّة، فلتُلتمس فيه العلاقة معنويًّا، وَفق العبثيَّة الآتية:
1- كان الزعم المشهور، الذي ورثه عن سلفه الصالح (الصليبي): أن (بني إسرائيل) عشيرة من العرب البائدة عاشت في الجزيرة العربيَّة. وعليه فإن الأسماء التوراتيَّة هي أسماء موجودة في جنوب وغرب الجزيرة العربيَّة، هنا وهناك.
2- بقيت أسماء لم يجدها هؤلاء «المؤسرلون» لبلاد العرب لا في جنوب الجزيرة العربيَّة ولا في غربها، فما الحل؟ الحلُّ سهل؛ فتلك أسماء تُرجمت إلى العربيَّة، بزعمهم! فلتكن العلاقة بين الاسمين العِبري والعربي بالمعنى لا باللفظ. ما يعني أن التوراة نَقلت بعض الأسماء كما هي ألفاظها في جزيرة العرب، فيما انقرضت أسماء توراتيَّة أخرى من التسميات في الجزيرة؛ لكن ترجماتها العِربيَّة دالَّة عليها! ولا تسأل هنا لماذا ترجموا تلك الأسماء؟ ومَن ترجمها؟ ومتى؟ بل متى كانت أسماء الأعلام تُترجم أصلًا؟! هذه أسئلة غير مثارة لدى مؤلِّف «جغرافيّة التوراة»؛ لأنه قد أخذ على عاتقة الاعتقاد المطلق أن تاريخ (بني إسرائيل) كان في (عسير)، وأن الإشارات التوراتيَّة هي إلى تلك الجهة من الجزيرة العربيَّة، وهو معبِّدٌ عمله للتأمين على فرضيَّات (الصليبي) بأيِّ صورة من الصور، وبذا تغدو كلُّ وسيلة توصله إلى تلك الغاية المبتغاة مبرَّرة.
من منطلق هذه «الدوغمة» صار بإمكان الرجل القول إن مملكة (أدوم) هي (حِمْيَر)، «وفق قناعته الشخصيَّة»، كما يكرِّر هذه العبارة في كتابه.(4) هو، إذن، يقدِّم كتابًا لا ينهض إلَّا على «قناعاته الشخصيَّة»، التي لم تتأسس على أدلَّة عِلْميَّة، بل على اقتناعات رغبويَّة.
لماذا (أدوم) هي (حِمْيَر)؟
قال: لأن (حِمْيَر)، في ما قيلِ، إنما سُمِّي بهذا الاسم لأنه يلبس حُلَّة حمراء، ومعنى (أدوم) بالعِبريَّة: الأحمر!(5) وبذا ينتفي اسم «حِمْيَر»، الجَدِّ العربي المشهور، الذي نُسِب إليه الحِمْيَريُّون، وتنتفي حقيقته التاريخيَّة، ويصبح الحِمْيَريُّون محض امتدادٍ «ترجميٍّ» لـ«أَدُوم». ومعروف أن أَدُوم- حسب التوراة- هو: (عيسو، أخو يعقوب)، وبلاد أَدُوم تسمَّى أرض (سعير)، وتقع بين (البحر الميت) و(خليج العقبة).(6) وهكذا، فكما رأيناه يتجاهل اللغة العربيَّة، أو يجهلها، لصالح العِبريَّة، ها هو ذا ينفي التاريخ العربي لصالح التاريخ العِبري. ولا غرو، فعَهْدُنا بهذا الحسِّ التاريخيِّ الرجراج، لديه ولدى سابقيه، جسرًا تُقدَّم عبره الأحداث والأعلام إلى غير أوانها وتُؤخَّر، حسب الحاجة. لأجل ذلك، وامتدادًا له، سيَرى- و«وفق قناعاته الشخصيَّة» أيضًا- أن (البحر الأحمر) سُمِّي بهذا الاسم نسبة إلى حِمْيَر!(7)
ولكن ماذا إذا لم يجد علاقة لفظيَّة ولا معنويَّة بين الاسمين التوراتي والعربي؟
ذلك ما سنعرف حيلته فيه في المقال التالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 107- 108.
(2) م.ن، 108.
(3) انظر: الأزهري، تهذيب اللغة، (شعر).
(4) انظر: مُنَى، 119.
(5) ظهرت (مملكة حِمْيَر) على مسرح التاريخ نحو 110ق.م. فإذا استظهرنا غاية الاستظهار، قلنا إنها كانت قائمة خلال القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد.
(6) هناك من يذهب إلى أن (أدوم) كانت تمتدّ جنوبًا أيضًا، كـ«موسوعة الطرق التجاريَّة القديمة ANCIENT TRADE ROUTES»، على شبكة "الإنترنت":
http://www.ancientroute.com/empire/edom.htm
وليكن! فهذا شيء، والادِّعاء أن (بني إسرائيل) كانوا يعيشون في جنوب شبه الجزيرة العربيَّة، وأن (حِمْيَر) تعني (أدوم)، شيء آخر.
(7) انظر: مُنَى، 120.
#الأسرلة #جزيرة_العرب #مقال
10 نوفمبر 2016
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 15 نوفمبر 2016، ص22.
http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2016/11/15/xNaSg0l86M2UDN8NvCZ6wAplusplus/P022.pdf
|