يَعقد مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» الفصل التاسع من كتابه تحت عنوان «اليم الذي ليس بحرًا»، من أجل إنكار أن إشارات التوراة إلى كلٍّ من (البحر الميِّت) و(بحيرة طبريَّة) إشارات إلى هذين المكانَين المعروفَين، بل إلى مَواطن في السَّراة! ذلك أن المزاعم، التي استحالت إلى عقيدة لدى هؤلاء بأن تاريخ (بني إسرائيل) كان في جزيرة العرب، لا تتأتَّى نظريًّا دون اجتثاث (فلسطين) و(الأردن) و(لبنان) و(مِصْر) و(العراق) برُمَّتها جميعًا من أماكنها التاريخيَّة لنقلها إلى جزيرة العرب. ولا بُدَّ بعدئذٍ من تأوُّل كلِّ اسمٍ، وكلِّ حدثٍ، لاختلاق بناءٍ هلاميٍّ من الفرضيَّات، في غياب أيِّ مستندٍ تاريخيٍّ مؤيِّد لما يزعمون، ولنقض أيِّ مستندٍ تاريخيٍّ مناقضٍ لما يسعون إليه، تاريخيًّا كان أو لغويًّا أو دِينيًّا، أو حتى نقشًا على حجر.
وانتهى صاحبنا في رفضه للتفسير الذاهب إلى أن الاسم التوراتي «يم هملح»- ويعني بالعربيَّة: «يم الملح»- يشير إلى (البحر الميِّت) إلى قوله إنه لا يشير لا إلى «يم» ولا إلى «ملح»، ومن ثمَّ لا يشير لا إلى (البحر الميِّت) ولا إلى أيِّ بحرٍ آخر. دون أن يقدِّم برهانًا على ما يقول، أكثر من:
1- أنه قد أُطلِقت أسماء أخرى على ذلك المكان، هي: «يم»، و«يم هملح»، و«يم هعربه».
2- تجاهُل الإشارة إليه عند وقوف (موسى) «على جبل نبو الذي في أرض مؤاب الذي قبالة أريحا».(1)
أ فهذا يكفي استدلالًا لنفي تاريخ أو لإثباته؟!
غير أنه، وهو في هذه المعمعة الجدليَّة، ساق إلينا ما خُيِّل إليه شاهدًا على أن (بني إسرائيل) لا علاقة لهم بالبحر الميِّت، فإذا هو يسوقه شاهدًا عليه لا له، ودليلًا على أن لا صلة لبني إسرائيل بجزيرة العرب! ذلك أنه حين نفَى الزعم الذاهب إلى أن للزِّفت الطافح عن البحر الميت علاقة بسفينة (نوح)، أو أنه قد استعان به (سليمان بن داوود) على بناء الهيكل أو بناء السفن؛ استدلَّ على ذلك بـ:
1- أن العرب- وهم أهل بحارٍ وأهل تجارة- قد اعتمدوا في صناعة السفن وغيرها على موادّ مستمدَّة من أشجار (العرعر)- الكثيفة في غرب الجزيرة وجنوبها- ولم يكونوا في حاجةٍ إلى زفت (البحر الميِّت) المزعوم.
2- أن (بني إسرائيل)- كما قال- لم يكونوا أهل بحار، كما يدلُّ على ذلك تاريخهم، ولا قُدرة لهم على بناء السفن وخوض البحار. ثمَّ شرعَ يستشهد على جهل بني إسرائيل بالبحار وتقنياتها.
مردِّدًا خلال ذلك قول (كمال الصليبي)(2) إن «يم هملح» و«يم هعربه» مكانان لا مكان واحد، يقعان في منطقة (الطائف)، هما: (الملحة) و(غُرابة)، وأن كلمة «يم» تعني: «غرب»، لا «بحر». وهكذا فإنه لكي يؤكِّد أنْ لا علاقة طبيعيَّة أو حضاريَّة (للبحر الميِّت) (ببني إسرائيل)، إذا هو يقع- من حيث لم يشعر- في نقض أطروحته نقضًا؛ وذلك بنفيه أن بني إسرائيل كانوا أهل بحار، أو أنها كانت لهم صناعات خشبيَّة، لبناء السفن أو غير السفن، كما كانت للعرب صناعات خشبيَّة. أ ولستَ تقول- ومعك (الصليبي) و(أحمد داوود)- إن بني إسرائيل كانوا عشيرة من عشائر العرب، تعيش في (جزيرة العرب)، جَنوبًا وغَربًا؟! فكيف كانوا عربًا، وفي جزيرة العرب، وفي الوقت نفسه لم يكونوا عربًا، ولا صلة لهم بحضارة العرب الصناعيَّة والبحريَّة في جزيرة العرب؟!
هذا التناقض الذي وقع فيه المؤلِّف هو الذي كان يضطر (أحمد داوود)- كما سلف في عرضنا كتابه- إلى الاستدراك، تنصُّلًا من هذه المعضلة، زاعمًا أن بني إسرائيل كانوا عشيرة عربيَّة لكنها كانت في الحضيض من العُزلة والتخلُّف! والحقُّ أنها لم تكن عشيرة عربيَّة، ولا في الحضيض من العُزلة والتخلُّف، ولا في جزيرة العرب، وإنما أوقع أولئك الثلاثة في شِباك التناقض إصرارُهم على نقل تاريخ (بني إسرائيل) من (الهلال الخصيب) إلى (جزيرة العرب).
وممَّا يدلُّ على أن (بحر الملح) بحرٌ، وهو (البحر الميِّت)، ولا علاقة له بالمكانَين المزعومين في (الطائف)، أن وصفه في التوراة جاء بإضافة كلمة «لسان» إليه، بمعنى «اللسان البحري»، كما في (سِفر يشوع، الإصحاح الخامس عشر):«وَكَانَ تُخُمُهُمُ الْجَنُوبِيُّ أَقْصَى بَحْرِ الْمِلْحِ مِنَ اللِّسَانِ المُتَوَجِّهِ نَحْوَ الْجَنُوبِ.» وفي (السِّفر نفسه، الإصحاح الثامن عشر): «وَكَانَتْ مَخَارِجُ التُّخُمِ عِنْدَ لِسَانِ بَحْرِ الْمِلْحِ شَمَالًا إِلَى طَرَفِ الأُرْدُنِّ جَنُوبًا».
وليست (بُحيرة طبريَّة)، كذلك، ببُحيرة طبريَّة، لدى (مُنى)! والسبب، كما رأى، أن الإشارة في «التوراة» هي إلى (كنرت)، و(يم كنرت)، اللذين فهمَهما ذوو الاختصاص على أنهما: (مدينة طبريَّة) وبُحيرة طبريَّة. فلماذا لا يوافق المؤلِّف على هذا التفسير؟ قال لأن اللافت للانتباه أن هذين الاسمين غير واردَين في النصوص القديمة للدِّلالة على مدينة طبريَّة وبحيرة طبريَّة. كيف؟ قال: إن «العهد الجديد يُطلِق في (سِفر لوقا، 5: 1) اسم «بحر جَنِّيسَارَت» على بحر طبريا، بينما يرد الاسم في (سِفر المكابيين الأول، 11: 67) بصيغة «جنيسكر». أمَّا التلمود فيطلق على البحيرة اسم يمه سل طبريه بمعنى (البحر القريب من طبريا)».(3) إذن، الاسمان غير واردَين في النصوص اللاحقة بـ«العهد القديم» للدِّلالة على مدينة طبريَّة وبُحيرة طبريَّة!
السؤال هنا: أين ذهبت آليَّة القلب والاستبدال، التي أعملها هؤلاء في بنيات الألفاظ لقلب (الشَّام) (يَمَنًا)، واستبدال جَنوب وغَرب الجزيرة العربيَّة بـ(فلسطين)، وبلاد (الشَّام) عمومًا، و(مِصْر) و(العراق)؟! أم أنها آليَّة لا تعمل إلّا حين يكون الهدف نقل تاريخ (بني إسرائيل) إلى الجزيرة العربيَّة؟! ذلك ما سنناقشه في المقال التالي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 198- 200.
(2) انظر: الصليبي، (1997)، التوراة جاءت من جزيرة العرب، ترجمة: عفيف الرزَّاز (بيروت: مؤسَّسة الأبحاث العربيَّة)، 137- 140.
(3) مُنَى، 202- 203.
#البحر_الميت #الطائف #إسرائيل #مقال
24 ديسمبر 2016
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
|
....................................................................................................
* صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 20 ديسمبر 2016، ص22.
http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2016/12/20/nrPP6Ehk5tvNmMuminusEbghtQplusplus/P022.pdf
|