يؤكِّد لنا الشِّعرُ النَّبَطِيُّ(1)- بأعرافه الفنيَّة الحيَّة إلى اليوم، السارية في دماء الموهوبين من ناظميه- أن العَروض العربيَّ وموسيقى الشِّعر مكوِّنان طبيعيَّان من مكوِّنات اللغة العربيَّة، والثقافة العربيَّة، والشخصيَّة العربيَّة، والذوق العربي العام. والعَروض وموسيقى الشِّعر مرتبطان بالأنظمة اللغويَّة، أو قُل منبثقان من تلك الأنظمة، وليسا بفَضْلَة، أو عنصرَين مقحمَين. ومن ثَمَّ يُعَدُّ القفز عليهما- تخلِّيًا، أو استبدالًا- قفزًا على النظام اللغوي وطاقاته التعبيريَّة. وإنَّما يُمكِن تطويرهما من خلالهما، ووَفق نواميسهما، كما تُطوَّر الأنظمة اللغويَّة نفسها. والشاعر الشاعر قادرٌ على تفجير الطاقات الموسيقيَّة اللغويَّة بلا انتهاء. انظر، على سبيل الشاهد، كيف يؤلِّف (محمود درويش)(2) بين البحر المتقارب والبحر المتدارك في نصٍّ واحد، لا على نحو ما أسميته في كتابي «حداثة النصِّ الشِّعري»: (شِعر التفعيلات)، الذي يتعانق فيه نسقا هذين البحرَين(3)، ولكن في ضربٍ مختلفٍ لافت، قد يبدو مستقلًّا فيه كلُّ سطرٍ شِعريٍّ بوزن:
1. إذا كان لا بُدَّ من قَمَرٍ
2. فليكن كاملًا، ووصيًّا على العاشقةْ!
3. وأمَّا الهلال فليس سوى وَتَرٍ
4. مُضمرٍ في تباريح جيتارةٍ سابقةْ!
5. وإنْ كان لا بُدَّ من منزلٍ
6. فليكن واسعًا، لنربِّي الكناريَّ فيه.. وأشياء أخرى
7. وفيه ممرٌّ ليدخل منه الهواء ويخرج حُرًّا
8. وللنحلِ حقُّ الإقامةِ والشُّغلِ في رُكنهِ المهملِ...
وعلى هذا النحو يمضي. فتلحظ هنا أنك إذا اعتمدتَ الكلمات (قَمَر، العاشقة، وَتَر، سابقة، منزل، أخرى، حُرّا، المهمل) قوافيَ للأسطر- وهي بالفعل صالحةٌ لأداء هذه الوظيفة الموسيقيَّة- صار النصُّ يتناوبُ بين المتقارب والمتدارك، هكذا: [س1: متقارب، س2: متدارك، س3: متقارب، س4: متدارك، س5: متقارب، س6: متدارك، س7: متقارب، س8: متقارب]. أمَّا إذا قرأتَ النصَّ قراءةً أخرى، مطَّرِدًا، غير متوقِّفٍ عند القوافي الداخليَّة (قَمَر، وَتَر، منزل، أخرى، حُرّا، المهمل)، فإن الوزن يعود متقاربًا كلَّه.
ولا ريب أنه يبدو اليوم لكلِّ ذي عينَين بصيرتَين وقلبٍ أمينٍ أن إسقاط العَروض من الشِّعر العربي فعلٌ طفوليٌّ تخريبيٌّ جاهل، وغير مسؤول، كإسقاط النحو من اللغة العربيَّة. هو مشروعٌ لمسخ الشِّعر العربي، كما أن إسقاط النحو واللسان العربي الجامع مشروعٌ لتفتيت الجسد اللغوي، وتمزيقه أشلاءً، وتقسيم العرب بحسب لهجاتهم، إرهاصًا لتشييعهم إلى مثواهم الأخير من ذاكرة التاريخ.
أمَّا الحداثة، إنْ كان من حداثةٍ حقًّا، فجئني بشِعرٍ عربيٍّ حديث فوق هذا النموذج للشاعر الجاهلي (عمرو بن الأهتم)(4)، لغةً وتصويرًا وتعبيرًا:
ومُـــسـتَــــنْبِـــحٍ بَعْــــدَ الهُـــدوءِ دَعوَتُـهُ ::: وَقَد حانَ مِن نَجم الشِتاءِ خُفوقُ
يُـعـــالِــجُ عِـــرنــيـنــًـا مِــنَ اللـيـلِ بـــارِدًا ::: تَـــلـــُــــفُّ ريــــاحٌ ثَــــوبـَـــهُ وبُــــــرُوْقُ
لَعَـــمْــــرُكَ ما ضاقـــَــت بِــلادٌ بِأَهلِـهـا ::: ولـكِـــنَّ أَخــلاقَ الـرِّجـــالِ تَــضِــــيْـــقُ
نعم، إنَّ الموسيقى مكوِّنٌ أصيلٌ في القصيدة العربيَّة، شئنا أم أبينا. كيف لا، وهي من طبيعة النسيج اللغوي أساسًا؛ من حيث إن اللغة العربيَّة لغةٌ موسيقيَّةٌ؛ بناءاتها الصوتيَّة والصرفيَّة والنحويَّة سلالم موسيقيَّة، لا ينطقها الناطق إلَّا وهو يعزف ويلحِّن ويغنِّي، في النثر قبل الشِّعر. غير أنَّها خاصيَّةٌ تتكثَّف في الشِّعر لتمنحه التوتُّر الصوتيَّ والدلاليَّ، المائز لجنسه عن غيره من الخطابات الذهنيَّة الباردة. ولأن الموسيقى لا تنفصل عن الشِّعر عند العرب فإن القصيدة لم يُصطلَح عليها لديهم بهذا الاسم «قصيدة» إلَّا لأن نصَّها «مُقَصَّدٌ»، أي منغَّمٌ، منظَّمٌ، مرتَّلٌ في وحدات نغميَّة، ومن هنا سمَّوها: «قصيدة». وما لا يتوافر على تلك الخاصيَّة من النصوص، فلا يسمِّيه العرب «قصائد» البتة. فليُسَمَّ شيئًا آخر: سجعًا، خواطر، نثرًا فنِّيًّا. ليكن ما يكون، أو لينتم إلى أيَّة رطانة ترفضها الذائقة العربيَّة بوصفها شِعرًا؛ من حيث إن ما سمَّاه العرب شِعرًا مرتبطٌ بالموسيقى بالضرورة؛ كما أن ما سمَّوه لسانهم، المبين عن أفكارهم، مرتبطٌ بالبناء الإعرابي بالطبع. وحينما يجرَّد النصُّ من الموسيقى، فليس في ميزان الشِّعر العربي بشِعرٍ عربيٍّ، كما أن اللغة، حينما تتجرَّد من بنائها الإعرابي العربي، لا تعود في ميزان العربيَّة إلَّا أطلال عربيَّةٍ دامرة. ولذا فإن القول بأن الموسيقى الشِّعريَّة مكوِّنٌ فنِّيٌّ صميمٌ في جنس الشِّعر العربي ليس قولًا اعتباطيًّا، ولا مجرَّد وجهة نظر، ولا مزاجًا، أو عصبيَّة لمدرسة، كأنْ تكون الفكرة وليدة منطلَقٍ تقليديٍّ، متعلِّقٍ بالوزن والقافية أو بالتفعيلة- كما هي الدعوَى الساذجة المضادَّة، هروبًا من مواجهة اللغة، وحقائق الهويَّة، واشتراطات التجديد الجاد- لكنها الرؤية العِلْميَّة لطبيعة العربيَّة وطبيعة شِعرها. ولا خيار لنا، إذن، إلَّا في «التجديد»، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لا الهروب أو تقليد الآخَر. لا مناص- لمن أراد البناء- عن هويَّة لغته وشِعره، وضرورة تطويرهما، وَفق خصائصهما الذاتيَّة، ونواميسهما التعبيريَّة. أمَّا الخيار الآخر، السائر اليوم، فما أسهله، وما أسذجه، وما أخونه! وما هو بأكثر من تقليدٍ مسخيٍّ، يحاكي ما في لغاتٍ أخرى، ذات خصائص أخرى؛ لينتهي بنا إلى ادِّعاء عُروبةِ غير العربي، والزعم أن النثر- حسب مقاييس العربيَّة- قد بات شِعرًا عربيًّا، آخرَ الزمان، والخواطر العجماء قد أضحت قصائد عصماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أقرب احتمالٍ لأصل مصطلح «الشِّعر النَّبَطي» هو، في تقديرنا، نسبة إلى العرب المستعربة، أو عرب شَمال الجزيرة العربيَّة، اشتقاقًا من اسم (نابت بن إسماعيل بن إبراهيم). وقد نجده في بعض المصادر الإسلاميَّة: «نابت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم». وفي مصادر أخرى أن لإسماعيل أبناء منهم (نابت) و(قيدار)، وقيدار جَدُّ (عدنان). ومهما يكن من أمر، فالنبطيُّون هم من يشير إليهم المؤرِّخ (يوسيفس، -100م) بهذا الاسم: (Nabateans)، في مثل قوله: "When Jonathan was returned thence, he went into Arabia, and fought against the Nabateans…". (Josephus, (?), Complete Works of Josephus, (Boston, Mass., U.S.A.: C. H. Simonds Company), v.2, p.322). ولئن كانت مملكة النَّبَط العربيَّة، وعاصمتها (سلع/ البتراء)، جنوب (الأردن)، قد اشتهرت في هذه البُقعة الشاميَّة الممتدة جنوبًا إلى جهات (العُلا)، شَمال غرب الجزيرة العربيَّة، فلعلَّ انتشار النَّبَط كان أوسع من ذلك. وهم من قَبْلُ ينحدرون، نَسَبيًّا وجغرافيًّا، من سُلالةٍ إسماعيليَّةٍ حجازيَّةٍ مكِّيَّة، إنْ صدقت التواريخ والأنساب. وعليه، فربما كان «الشِّعر النَّبَطي» اصطلاحًا ضاربًا في القِدَم، أُطْلِق على شِعر العرب المستعربة إجمالًا. وبقي هذا المصطلح في التداول الشعبي فقط، في مقابل مصطلحات أخرى لضروب من الشِّعر، اندثرت ولم تُدوَّن، واندثرت مصطلحاتها، إلَّا من بقايا محدودة، كـ(الشِّعر الحُمَيني)، في (اليَمَن) وجَنوب الجزيرة. وبذا قد يصحُّ القول إن الشِّعر النَّبَطي يعني في الأساس: الشِّعر العربي الشَّمالي، في (الحجاز، ونجد، وشَمال الجزيرة)، الذي دوَّن المدوِّنون الإسلاميُّون بقاياه، وبَنَوا عليها قواعدهم في العربيَّة بنحوها وعَروضها، وأهملوا ما عداها.
(2) قصيدة «إذا كان لا بُدَّ»، ديوانه الأخير: «لا أريد لهذي القصيدة أنت تنتهي».
(3) حول (شِعر التفعيلات)، انظر: كتابي: الفَيْفي، عبدالله بن أحمد، (2005)، حداثة النصِّ الشِّعري في المملكة العربيَّة السعوديَّة: قراءة نقديَّة في تحوُّلات المشهد الإبداعيّ، (الرياض: النادي الأدبي)، 151.
(4) الضبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون (القاهرة: دار المعارف)، 126/ 7، 8، 127/ 21.
#الموسيقى
#الشِّعر
#مقال
29 أبريل 2017
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
https://twitter.com/Prof_A_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify
|