|
|
تسعى (مناهج التنجيم وضرب الودع)، المتَّبَعة لدى بعض نقَّاد الأدب اليوم، إلى تأويل ما لا تأويل له، ولا بناء له أصلًا ولا معنى. ولو جئتني بهذيان مجنونٍ «رسمي»، لاستخرجتُ لك منه- بتأويلات كتلك- آيات من الحِكم البالغة والدلالات الفريدة. ومن ثَمَّ فرُبَّ كلمةٍ لا يُلقي لها الإنسان بالًا تهوي به في الشِّعريَّة الحديثة أربعين خريفًا! ذلك أنَّ خلطًا بين الإديولوجيَّة والأدبيَّة يجري كثيرًا في غياب معايير عِلْميَّة. فالشيوعيُّ، مثلًا، يُمجِّد بالفِطرة الشاعر الشيوعيَّ، وإنْ لم يكن له من حقيقة الشِّعر كبير حظٍّ، ويغمط في المقابل مقابِلَه في التوجُّه، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. والمتلبلر يُمجِّد الكاتب المتلبلر بالفِطرة كذلك. والحداثيُّ يموت هيامًا بالاثنين معًا، بقطع النظر عن قيمتهما الأدبيَّة، وإنْ لم يقرأ لهما حرفًا، أو يفهم لهما طرحًا! وكذا تفعل سائر التيَّارات والأصوليَّات، غربًا وشرقًا. لكن البلوى بهذه الظاهرة لدينا أكبر لأسباب حضاريَّة كثيرة. وستجد أحد هؤلاء، ممَّن لا تعرفه، يشنُّ هجومًا شرسًا، مستهدفًا الشخص لا النصَّ، حتَّى إذا فتَّشتَ عن الأسباب، وجدته قد انتكأ، من حيث لم يحتسب. وستراه منفعلًا مندفعًا للدفاع عن نفسه، وعن حزبه، لا أكثر. ربما كان صديقًا، فانقلبَ عدوًّا؛ لأن الأصوليَّات لا تعرف الأصدقاء، بل رفقاء الحزب والمصالح. ولذلك فالعصبيَّة لا توادّ أحدًا ممَّن حادَّ حزبها، برأيٍ أو نقدٍ أو تحليل. وستجد لهؤلاء أصنامهم. ويبدو هاهنا أن الوثنيَّة ما انفكَّت تسري من دماء العرب- بصفة خاصَّة- مسرى الدم، في كلِّ مجال. فهذا القائد الملهم، وهذا بطل الحرب والسلام، وذاك الرائد الأكبر، وذلك الإمام الأكبر، وذلكم العلَّامة العظيم، وهنالك شاعر العرب الأكبر... وهكذا. لن تقف على مثل هذا لدى الأُمم المتحضِّرة؛ لا القائد الملهم، ولا بطل الحرب والسلام، ولا الرائد الأكبر، ولا الإمام الأكبر، ولا العلَّامة العظيم، ولا الشاعر الأكبر. مساكين أولئك، لا أمجاد لهم ولا عظماء ولا أصنام. وويلٌ لك إنْ تحرَّشت، وإنْ بنقدٍ بريءٍ، لشبحٍ من هؤلاء، قائدًا كان، أو بطلًا، أو رائدًا، أو إمامًا، أو علَّامة، أو شاعرًا. الذِّمَّة منك تغدو بريئة، وتُهدِر القبيلةُ دمك ومالك وعرضك. وفي مقابل غثاء هؤلاء، شعوبيُّون كالجراد كثرةً، أعني أولئك الذين بلغ ولاؤهم للآخَر حدَّ نكران الذات ومعاداتها في سبيل الذات الأخرى العَليَّة، ومعاداة مَن يقول كلمة في انتقادها. فهم يشمئزون كثيرًا من نقد الغرب، ويشمئزون أكثر من كلمةٍ منصفةٍ في حقِّ العرب. ومِن الأعراب مَن بلغت بهم عُقَد نقصهم، وعبوديَّة أفئدتهم وعقولهم، إلى ذلك المستوى الذي نذروا فيه حياتهم لإخماد أيِّ كلمةٍ تبدو في مصلحة العرب، والتصدِّي لأيِّ رأيٍ يَشْتَمُّون منه نسبة فضلٍ إلى التراث العربي، مناضلين ضِدَّ أيِّ قائلٍ، على سبيل المثال، بفضلٍ للغة العربيَّة على لغاتٍ أخرى، أو إلماحٍ إلى إسهامٍ تأسيسيٍّ للحضارة العربيَّة الإسلاميَّة في الحضارات الإنسانيَّة الراهنة. وتراهم، مع تشنُّجهم ذاك، لا يقدِّمون مناقشةً علميَّة، ولا تحليلًا يُثبِت نكيرهم، وإنما يترافعون بكلامٍ محفوظٍ مكرور، تحت قناع: كفانا تمجيدًا للعرب، أو من قبيل: كفانا تعليقًا لعيوبنا على سوءات الآخرين! وهما دعوتا حقٍّ يراد بهما باطل، وسبحان من يمسخ العقول والنفوس!
* صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 17 مايو 2017 ، ص19. http://s1.alraimedia.com/CMS/PDFs/2017/5/17/nSaminusWSrsSMOminustMG4FVwNUwplusplus/P019.pdf |
|
شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة! |
جميع الحقوق محفوظة ©