التكسب بالشعر:4.مقالات:إضبارة د. عبد الله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

التكسّب بالشعر وتراث عصور الانحطاط !

د.عبدالله بن أحمد الفَيْـفي
[أصل مقال الكاتب، قبل أن تُجرى عليه تعديلات في جريدة الاقتصادية]

عندما يتحوّل مفهوم التُّراث، الذي يمثّل ذاكرة الشعب والأُمّة، إلى واجهة شعبية، تحتفي بالفلكلور، وبالأدب العامي، الذي ساد إبّان ضعف المجتمع وجهله ومرضه، فلا غرابة أن ينصرف إليه الاهتمام، وتُسخّر في سبيله الوسائل، وتُحشد من أجله الأموال والطاقات! إذ ما أن أفاق العرب في القرن العشرين أو كادوا يفيقون من سُبات قرون، وما أن جَعَلَ التعليم والإعلام ينهضان بشيء من سويّتهم اللغوية والأدبيّة والفكريّة، حتى ارتكسوا كرّة أخرى، بفعل فاعلين من أبنائهم، يدفعهم الجهل، أو اللامبالاة، أو المتاجرة والأغراض الضيّقة، إلى اختزال التراث العربي في: (تراث عصور الانحطاط)! وهكذا شُجّعت العاميّة، ومُدّت بالمال والعتاد. فأقيمت لها الأمسيات، والندوات، والمهرجانات، والقنوات الفضائية، وظهر "ستار شعبي" على طريقة "ستار أكاديمي"، وأُنشئت مواقع الإنترنت ومنتدياتها العملاقة، ونُشرت المجلاّت الصاخبة، ورُوّج لها عبر الغناء، وخُصّصت لها ملاحق باذخة في الصّحف اليوميّة والمجلاّت الأسبوعية والشهرية، وشُيدت المراكز، ومحلاّت الكاسيت على الطرق السريعة وغير السريعة، بل أُدخلت بعض نصوصها في مناهج التعليم في بعض الدول العربيّة، وتبنّت بعض الجامعات- التي هدفها التعليم والتنوير، كما كان يُفترض- أماسي للشعر العاميّ! ومن ثم فلا غرابة أن نرى الشعراء بعد أن كان يتحوّلون من العاميّة إلى الفُصحى، أمسوا في السنوات الأخيرة يتحوّلون من الفُصحى إلى العاميّة! وماذا تبقّى لم يفعله العرب في خدمة تراثهم المزعوم؟!
إنها حملة شعواء تستهدف نشر العامية بكل وسيلة ممكنة أو غير ممكنة، في حين تعيش اللغة العربية غربتها وتهميشها المتزايد يومًا بعد يوم، ليأتي من يندب ضَعْفَ الأجيال العربية في لغتهم، وعيَّ القصيدة عن منبرها المعتاد، وخجلَ العربية في مواجهة اللغات الأخرى، وكأن اللغة هذه إنما تتنزّل وحيًا على أهلها، كاملة ناضجة قوية، لا، كما هي في كل الدنيا: ممارسة بشريّة، تحيا بالاستعمال وتَضْمُر وتمرض وتموت بالإهمال!
تلك إذن حركة شعبويّة بدأت منذ عقود شِبْهَ لُعبة، جاءت- وبراءة الأطفال في عينيها- هامشًا حييًّا في بعض الصُّحف ووسائل الإعلام، ثم ها هي تي اليوم: ظاهرة مستشرية، كالسرطان، حتى ليكاد ينسكب على المرء من صنبور كل ماء شاعرٌ شعبي!
لماذا كل هذا؟ ألفرط حُبّ العرب للتراث؟ أم لغلبة النزوع الأدبي على العرب؟ أم لاحتفائهم بالجذور والأصالة؟ كلا، لا هذا ولا ذاك! فلو كانوا كذلك، لكانوا أقوى من اليابان في أصالتهم، وأعظم من الفرنسيين في أدبهم، وأرسخ من الإنجليز في خدمة لغتهم، لكنه نزوعٌ قَبَليّ، في حنين إلى الماضي الدفين، في رغبة إلى التقوقع حول المحلّي، في هروب من حداثة العصر، لا إلى منابع النور الأصيلة من الماضي، ولكن إلى منابع الانغلاق والتقليديّة والسكونيّة والاجترار في قرون الانحطاط!
إنها حالة طوارئ تنحو إلى الانطواء على الذات باسم التراث الشعبي. ولذلك فهي غير خلاّقة في تعاملها مع الموروث، بحيث تأخذ صالحه وتنبذ طالحه، وتصطفي منه ما يستأهل أن يعيش، وما يمكن أن يُبنى عليه ويُطوّر، وتذر ما وراءه من غثاء، بل هي تأخذ التراث، في صورته الشعبية، بقضّه وقضيضه، لتجلس على تلّه كما هو، وربما بمزيد تشويه عمّا كان عليه! ومن هنا، يتحوّل ذلك التراث إلى وباء يزكم الأنوف، وإعصار يسدّ عين الشمس بالغبار، لا إلى نسغ حيويّ، يُوظَّف في قضايا اللغة التاريخيّة الجامعة وشؤون الفكر الجاد والثقافة.
فإذا تجاوزنا خطورة هذا المدّ العاميّ الشعبويّ الأحمر على اللغة العربية الفُصحَى- بتوظيفه أفتك الأسلحة اللغوية المعروفة، تقليدية ومستحدثة: الفنّ والأدب والإعلام وربما التعليم- إلى خطورته الثقافية والقيمية، ألفيناه يستحيي أمراض الشّعوب العربيّة ويكرّسها: قَبَليّة، وطائفيّة، ووصوليّة! كما يبتعث من رميم الشاعر العربي القديم شخصية الكذّاب، الزمّار، المتكسّب، الطفيلي، الذي يعيش على فُتات الموائد، ويسخّر موهبته وراء كل ناعق، لا قضيّة له، ولا رأي، ولا موقف، ولا كرامة! يمتهن الكلمة الشعريّة، كما يمتهن الطبّال طبلته، لا همّ له سوى كم باع وكم كسب، من ملايين أو حتى ملاليم! ولا غرو، فحين تسقط الكلمة في أتون الذات والمال والجاه، يتداعى وراءها كل شيء!
لكم كان يتطلّع كل غيور إلى أن توظّف الأموال والإمكانيّات لخدمة قضايا الأمّة، والانتصار للغتها وثقافتها، وما يوحّدها، عروبيًّا وإسلاميًّا، لا لما يفرّق لسانها، ويُشتّت شملها، ويبلبل انتماءها.. أو، إن لم يكن للأمّة في هذا الخير من نصيب، فأضعف الإيمان أن يُكفّ عنها شرّ العمل على نقيضه، من السعي في مناكب كلّ ما يضر ولا ينفع.. ويهدم ولا يبني!
أبناء العرب- بهوسهم العاميّ هذا- سائرون باللغة العربية حاليًّا على خُطى اللغة اللاتينية، وهم منتهون بها إلى النتيجة نفسها، وإن غدًا لناظره لقريب! ((سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)). (الأحزاب:62).




شكراً لقراءتك هذه المقالة !

أنت القارئ رقم:

FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©