حين اطلعت على مصنف الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي الأكاديمي السعودي الذي أصدره تحت عنوان: " حداثة النص الشعري في المملكة العربية السعودية " أيقنت بأن هذا الشاعر الذي أصدر مجموعتين شعرتين أقدر من سواه على النفاذ إلى عمق المشهد العربي السعودي، ذلك أنه ينسج أحكامه النقدية داخل إطار هذا المشهد تعينه في ذلك أدواته الأكاديمية وخبرته الجامعية لا سيما أنه أصدر أربع دراسات نقدية منها: " مفاتيح القصيدة الجاهلية، وشعر النقاد، والصورة البصرية في شعر العميان " وسواها ومن هذا المنطلق فإن الدكتور الفيفي ينصرف إلى التقنيات الشعرية الآليات المتجددة انسجاماً مع محور الحداثة الذي جعله عنواناً لكتابه وهو بذلك ينأى عن المحاور المضمونية التي قد تجبر الناقد على أن يكرر السائد ويعيد المكرور في مثل هذه الموضوعات لذلك فإنه ينتقي محور " شعرية العنونة " ليؤسس عليه القسم الأول من الكتاب وهو يشفعه بعنوان جانبي هو: " من العنوان الاسمي إلى العنوان النصي " ويبدأ بتجذير ظاهرة العنوان منذ الشعر العربي الجاهلي مروراً بعصوره اللاحقة وهو نسق أكاديمي محمود إذا يرسي المؤلف من خلاله الركائز ويضيء الأسس وصولاً إلى مجايليه من الشعراء وهم ينتقون نصاً كي يكون عنواناً في مثل عنوان الشاعر محمد جبر الحربي " انكسرت وحيداً " أو عنوانه الآخر " أطفئ فانوس قلبي " الذي يمكن أن يكون وحده قصيدة ومضة، إذ يرتكز على انزياح طريف والشاعر الحربي صوت شعري متميز أتيح لي قراءة نصوصه وسماعها في إحدى أمسيات الشعر في صنعاء.
ويشيع العنوان النص كعنوان علي الدميني: " بأجنحتها تدق أجراس النافذة " والعنوان هنا مكثف يعطي ويشع في أكثر من اتجاه ومما يذكر أن المؤلف يتقصى ظاهرة العنوان النصي لدى شعراء عرب آخرين منهم الشاعر محمود درويش الذي نقرأ له عنواناً مثل " حبيبتي تنهض من نومها " وعناوين أخرى مثل: " العصافير تموت في الجليل " و " تلك صورتها وهذا انتحار العاشق " و " لماذا تركت الحصان وحيداً " و " لا تعتذر عما فعلت ".. ومثله الشاعر أنسي الحاج في عنوانه: " ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة؟ " أو عنوانه الآخر " الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع " إذاً فهي ظاهرة موصولة وقد شاعت في المشهد العربي عامة، وكان لها انعكاسات على المشهد الشعري السعودي وعلى النحو المذكور.
ويشير المؤلف الشاعر إلى محاولات بعض الشعراء السعوديين لاختراع جزالة لغوية حديثة تحتفظ بنكهتها التراثية ضمن مغامراتها التجديدية بحيث توائم بين أنفاس الأصالة العربية لغة وبياناً وحداثة المفردة الشعرية، وانزياح التركيب متلبثاً عند أبرز شعراء الحداثة تميزاً في هذا المضمار الشاعر محمد الثبيتي ومن الشعراء المتميزين أيضاً محمد حسن علوان وعلي الدميني.
ويضع الفيفي يده على ظواهر أسلوبية وتقنيات وملامح تسم الشعر السعودي خاصة ومن ذلك التجريب من أجل أشكال شعرية وتقنيات مستحدثة أو ظاهرة توظيف المفردات البيئية ولغة الحياة اليومية لدى الشاعرين عبد الله الصيخان وسعد الحميدين وفي ظاهرة التناص يجد أن نصوصه الشعر السعودي المعاصرة وقد تتناص مع نماذج القصيدة العربية التراثية زمن نضجها وقد تتناص مع الشعر العامي أو مع نماذج الشعر العربي الحديث لدى أعلامه من أمثال السياب وأمل دنقل ونزار قباني ومحمود درويش وسواهم وقد تتناص أيضاً مع عيون القصائد المعاصرة في الشعر السعودي ذاته.
ويسوق الفيفي قولاً لجان كوهين بشأن دور الإيقاع في العمل الشعري مفاده إن قصيدة النثر بإهمالها للمقومات الصوتية للغة تبدو دائماً كما لو كانت شعراً أبتر يورد هذا في إطار القسم الأخير من الكتاب الذي مكث فيه عند هندسة الأشكال الإيقاعية وحرص على أن يجترح مصطلحاً آخر هو قصيدة التفعيلات وهو غير مصطلح قصيدة التفعيلة المعروف ويحاول أن يفصح عن هدفه من هذه التسمية إذ إنها يمكن لها بحق أن تتخذ اسم الشعر الحر أي تلك التي لا يتقيد إيقاعها بالتفعيلة الواحدة ولكنه ينداح في موسيقا الشعر العربي ليبتدع أشكالاً تمليها التجربة المتجددة من نص إلى آخر.. والمؤلف يطلق على قصيدة الشطرين مصطلح القصيدة التناظرية ويسمي قصيدة النثر" النثرية " وهو يشير من طرف خفي إلى أن بعض روادها وأقطابها يجعلونها خياراً شعرياً وحيد\اً.
ويشرع عبد الله أحمد الفيفي نوافذ المستقبل على سعتها ويتفاءل بالمنجز الشعري السعودي المقبل لا سيما أن القصيدة الحديثة تقف على مشارف عهد جديد أفضت إليه تيارات الشعر السعودي وفيما يشبه الحتمية الشعرية الجديدة القائمة على الحداثة الأصيلة أو الأصالة الحداثية وكما عبر عنها مؤلف الكتاب ومن المؤكد أن الجهد الأصيل لا يمكن إلا أن تتردد أصداؤه وتتعالى أجراسه فقد احتضن الكتاب النادي الأدبي بالرياض ومنحه الجائزة التي يستأهلها مثل هذا المنجز النقدي المهم.
|