بين الشعر العامي والشعر الفصيح:5.لقاءات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net

الشاعر د. عبدالله الفَيفي.. في حوار [غير منشور]
مع الملف الثقافي "سنابل"، مجلة "حياة الناس"
أجري سنة 1425هـ = 2005م
حاورته: الأستاذة هيا الشريف
(المشرفة على الملف)


* من الأفضل بالساحة؟ الشاعر الفصيح أم العامي؟

ج: إن كان السؤال عن "الأفضل"، فالأفصح، أمّا إن كان عن "الأكثر انتشارًا"، فالعامّي.

* لماذا تتكاثر مجلات الشعر العامي وتندر مساحات الشعر الفصيح؟

ج: السوق قائم على العرض والطلب، والطلب لا يعني دائمًا جودة السلعة. الشعر الفصيح له شروط كتابية وقرائيّة توفّرُها بين الناس محدود، بطبيعة الحال الثقافية والتعليمية.

* لماذا يتم توجيه الدعوات بملتقيات المثقفين لشعراء الشعر الفصيح بصفتهم(مثقفين) ويتم تجاهل شعراء الشعر العامي؟

ج: ما معنى الثقافة؟ هذا سؤال مشكل. لكن الثقافة بمفهومها الواسع تشمل الاثنين، العامي والفصيح. غير أن هذه الثنائية هي في أساسها ظاهرة ثقافية مرضية، لا على مستوى اللغة فحسب، ولكن أيضًا على مستوى القِيَم الاجتماعية، وتجاهل طرف سيزيد من تهميشه ومن ثم تفاقم حالته، ولن يحلّ المشكل.

* هل تقف الحكومات والهيئات العليا مع الشعر الفصيح؟ ويقف المجتمع مع الشعر العامي؟

ج: أمّا الحكومات والهيئات، فأخشى أنها لا تقف أصلاً- بما تعنيه الكلمة من معنى- لا مع هذا ولا ذاك! وأمّا المجتمع فيقف مع ما يفهمه ويتذوقه ويسهل عليه هضمه. وفي نهاية المطاف ليس موقف الحكومات ولا موقف المجتمع بحجة في المفاضلة، فدائمًا كلٌّ يغنّي على ليلاه، بل الحجّة هنا فيما ينفع الأمة، ويرفع شأنها، ويمكث في الأرض.

* بالمهرجانات والأمسيات تتم حفلات للشعر العامي ويتم تجاهل شعراء الشعر الفصيح لماذا؟

ج: "القمهور عاوز كذا!"

* بالقراءات النقدية كل الاهتمام ينصب على الشعر الفصيح..ولا مجال إلا ما ندر للعامي!

ج: "واحدة بواحدة!!"..
إن كان الاهتمام بالعامي هو لتقريبه من الفصحى، والإفادة منه لغويًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، فتجاهل قراءته جهل على جهل، أمّا حين تكون دراسته لتكريسه والدعوة إليه وتقعيده، إرهاصًا لتنصيبه بديلاً للأدب العربي واللغة العربية الفصحى، بتراثها الحضاري ومستقبلها المنشود، فنحن إزاء منزلق من العمالة أو- إن أحسنا الظنّ- من الغفلة المطبقة.

* من وراء مقولة ( الشاعر الفصيح متحضر مثقف راقٍ / الشاعر العامي بدوي جاهل ) ؟

ج: لعله لا يعنينا مَن وراء هذه المقولة، بل المهم مَن وراء ثقافة الجهل والتجهيل نفسها، من جهة، وثقافة التعصب للعاميّة والبداوة من جهة أخرى؟ رغم ما يقف وراء هاتين الثقافتين (الجهل والتعصب) من تردّي الأمّة لغويًّا وقيميًّا. أمّا أنا فلا أخفي- بل أعلنت وأعلن- انحيازي وتعصبي الطبيعي والحتمي للغة العرب، لغة القرآن، لغة الماضي التاريخي، لغة الحاضر الجغرافي، ولغة المستقبل.. وبعدئذٍ سيبدو لي كل ما فوق التراب تراب، وليزعل الزاعلون!

* لماذا يتفاعل الشارع المحلي مع الشعر العامي ويحفظه ويكرره..ولا يهتم بالفصيح؟

ج: الشارع يتفاعل مع أشياء كثيرة!.. وكما يحلو له!.. ولو أُخذ بأحكام الشوارع فيما يصلح للناس "لكانت علوم!".. فللناس- خاصة في الشوارع - فيما يعشقون مذاهب!

* من وراء انتشار فضائح الشعراء الشعبيين ..؟

ج: لست أنا!

* لماذا ينال الشاعر العامي الشهرة والاهتمام.. ويموتُ الشاعر الفصيح مجهولا؟

ج: لا لم نصل إلى هذا الحدّ بعد! ثم إن مسألة الشهرة والاهتمام نسبية.. ومن الناس من ينظر إلى بريق مؤقت من الشهرة لا قيمة له، ولا طائل وراءه.. بل إن القضيّة عند ذوي النظر لا تقيّم بالشهرة ولا بالاهتمام، وإلا فما أيسر السبيل!

* هل لكون أصحاب السمو يكتبون الشعر العامي..تأثير على مكانة الشعر العامي المحلي؟

ج: نعم، يمكن أن يعد ذلك أحد العوامل.. غير أن التأثير الجذري يظل مصدره قرون من الأميّة العربية، وقرون من المجتمع القبليّ، وقرون من الحياة المنغلقة على معطياتها الأليفة البسيطة، التي لا تكلّف أصحابها علمًا ولا معرفة ولا ما يتعدى متطلبات اليوميّ العابر. إن وراء مكانة الشعر العامي عاملين:
1) تاريخ من الاستسهال اللغوي.
2) وتاريخ من التمسّك المعرفي بما وجدنا عليه آباءنا، ولو كان أباؤنا لا يفقهون شيئًا ولا يعقلون.

* لماذا يؤخذ على شعراء الشعر العامي الثرثرة والتشهير والسب والشتم وتصفية الحسابات على صفحات المجلات..و لا يفعلها الشاعر الفصيح؟

ج: لأنهم نقلوا ما كان يحدث في المجتمع الشفاهي إلى المجتمع الكتابي. المشكلة تكمن في أن ما كان يُروَى في المجالس ويتناشد بين العامة- وهكذا كان ينبغي أن يبقى- قد تحوّل إلى عالم الكتابة. فما الغرابة؟ الحال: أننا نقلنا "مضارب البادية" إلى مضارب الجرائد والمجلات.. فما يحدث أمر طبيعي.. وغير الطبيعي هو ما لا يحدث..

* لماذا يهتم الشاعر الفصيح بالظهور دوماً بصورة المثقف المتعالي.. المتفلسف حتى بدون مناسبة!

ج: إن كان ذلك كذلك، فعقدة نقص لدى بعضٍ لا يجوز تعميمها على الكل. أمّا إن كان السؤال بمثابة: "لماذا لا يقول الشاعر الفصيح ما يُفهم؟" فمسألة أخرى.. ومن حق ذلك الشاعر أن يقول قول أبي تمام لأبي العميثل- وهو أعرابي قديم أشكل عليه أيضًا ما ظنه تعاليًا من المثقف وتفلسفًا، ولم ير لذلك مناسبة عنده- فجاءه الرد: ولم لا تفهم ما يقال؟ القضية هنا ليست بقضية التعالي والتفلسف، بمقدار ما هي قضية القراءة والكتابة، قضية التلقّي وآفاق التلقّي، باختصار- ودون تفلسف- هي: قضية إصرارنا على إقحام النسق العاميّ في عالم ليس بعالمه، وإلباسه فيه ثوبًا على غير مقاساته، فإذا هو يشعر بالغربة والغرابة والنفور، ثم يذهب في اتهاماته كل مذهب.

* هل حقاً ما يُقال أن الشاعر العامي يبحث عن الصحافة..بينما ينتظر الفصيح أن تأتيه وقد يتجاهلها؟

ج: الصحافة اليوم تجارة.. والشعر كذلك ضرب من التجارة.. فإذا التقت المصالح بين الاثنين التقيا على كلمة سواء.. لكن لا أعتقد أن هناك من يتجاهل دور الإعلام عمومًا؛ فصاحب الكلمة يبحث دائمًا عن قناة لإيصال كلمته، لكن لعل الفرق بين الشاعر العامي والفصيح، أن الأول أشدّ تعلّقًا بالشهرة لذاتها، والآخر (غالبًا) أشدّ تمسّكًا بوظيفة الشهرة في إيصال رسالة أدبية أو فكريّة، وليس بأي ثمن. ولو كان السؤال: هل حقاً ما يُقال من أن الصحافة تبحث عن الشاعر العامي.. بينما يبحث عنها الفصيح فلا يجدها؟ لكان السؤال أقرب إلى الواقع، وكانت الإجابة عنه بنعم؛ وكان التعليل: أن سوق الصحافة "عاوز كذا"؛ لأن السواد الأعظم من الناس "عاوز كذا"؛ لماذا؟ لأن نسبة الأمية العربية- إن في وجهها القرائي المعرفي أو في وجوهها الثقافيّة- "عاوزة كذا" كذلك! والإعلام عمومًا بقدر ما قد يخدم اللغة، فإنه عن طريق اتّجاره بما يروج لدى الناس من سلع، وحسب السوق الشرائية، يفسد اللغة والذوق، لا بما كان يفعله منذ سنين بسبب لغته غير المنضبطة فحسب، بل بما هو أدهى من ذلك وأمرّ، عبر تبنيه اليوم اللغة العامية وشعرها، وبدرجة لم يسبق لها مثيل.

*لماذا يُحسب للشعر العامي مجاراة الهموم الذاتية...ويُحسب للشعر الفصيح مجاراة الهموم العربية؟

ج: الهموم الذاتية إن لم تتصل بهموم الإنسان- عربيّ أو غير عربي- تظلّ قاصرة عن مخاطبة الزمان والمكان والإنسان، وتظل تدور على نفسها، أو على شؤون لا تعني إلا دائرة ضيقة من الناس المحيطين بالشاعر. ومحدودية الشعر العامي هي محدودية لغوية، ومحدودية تاريخية، ومحدودية جغرافية، ومحدودية وعيية، في آن. فكيف يتخطى ذلك كله؟ هو شعر ارتضى لغة محلّية، يفهمها أهل القرية أو الدولة فقط، وارتضى لغة حاليّة، لا تتواصل مع الماضي البعيد للعرب ولا مع المستقبل الآتي لهم، وارتضى لغة سقيمة، وجدت لمعالجة حاجيّات الإنسان البسيط المباشرة واليوميّة، عاجزة عن تناول الهموم الكلّية، بدقيقها وجليلها- وإلا انحرف ذلك النمط الشعريّ عن طبيعته، وخرج عن جلده بوصفه شعرًا عامّيًّا. كما أن الشعر العامّيّ ارتضى ثقافة عابرة، لا رصيد لها من التفاعل مع القضايا الكبرى، بل مع الهموم الإقليمية والخاصّة جدًّا، مما تنفعل له مدارك الشاعر الحسيه المباشرة، لا بما تتأمّله ملكاته الفكرية والخيالية. فأنّى للشعر العامي إذن مجاراة الهموم الكلّية، عربية أو غير عربية؟! ثم- لو تفوق الشاعر العامّيّ على نفسه ففعل ما ليس في إمكانه ولا من طبيعته (فَرَضًا) - فمَن سيفهم عاميّة المغرب في المشرق أو عاميّة المشرق في المغرب؟! ومن سيفهم عاميّة اليوم غدًا؟ ذلك أن العاميّة في كل اللغات هي لغة فطريّة متحوّلة متحرّكة، كتحرك الكثبان الرملية وتحوّلاتها، لا قرار لها زمانًا ولا مكانًا. وهي لغة الإقليم لا الوطن الكبير، وأحد أدوات الفُرقة لا الوحدة، والخصوصية لا العمومية، والذاتية لا الكلية، والقبيلة لا الأمّة، فأنّى " للداء أن ينقلب دواءً "؟!.. إلا عند مسطول كأبي نواس!









شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

أنت الزائر رقم:


FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©