في حوار طغت عليه أجواء مفعمة بروح رمضان الإيمانية وإن لم تخلُ في كثير من جوانبه عن الحديث في شؤون الأدب وشجون النقد الثقافة عموما.. التقى «الرسالة» الدكتور عبدالله بن أحمد الفيفي، عضو مجلس الشورى وأستاذ النقد الحديث بجامعة الملك سعود، وصاحب الدواوين الشعرية والدراسات النقدية المتنوعة. فكان الحوار ماتعا بما حواه من إجابات ذات نسق ينمو على وعي قلّ أن تجده في ظل الخواء الثقافي الذي تعيشه الساحة من خلال بعض مدعي الثقافة عامة، والأدب والدراسات النقدية خاصة، لن أطيل في التعريف بضيفنا الكريم فهو في غنى عن أسطر مني فكتبه ومحاضراته ودراساته تغني عن كل تقديم وكل بيان.. فإلى نص الحوار..
س1) ما أهم معاني الشهر رمضان الكريم عند الناقد الدكتور عبد الله الفيفي؟ وما برنامجه خلاله؟
ج1) رمضان موسم تربية. وكذلك كل العبادات تلحظ فيها ذلك الجانب التربوي، الذي يجعلها وسائل بناء في شخصية الفرد والمجتمع، ليعود نفعها على الإنسان نفسه. ومعاني رمضان تتعدّد في جانبها الصحيّ، والاقتصادي، والاجتماعي، وحتى السياسي. ومصداق أهمية رمضان في حياة الإنسان تلك النجاحات التي ارتبطت برمضان. ونحنُ- بصفتنا مسلمين- ننظر إلى بركة رمضان من حيث إن الصوم عبادة لله، اختصها سبحانه بما ليس في سواها: "... إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، غير أن حكمة الصوم على المستوى التربوي البحت عظيمة. ولكننا، ويا للأسف، نلغي فائدته بقلب نظام حياتنا فيه، على المستوى الفردي والجمعي والتعليمي والإعلامي والوظيفي، بما يجرّد هذا الشهر من وظيفته تلك. إذ ليس رمضان بتعويض نقصان تناول الطعام بالنهار بتناول أضعاف مضاعفة منه في الليل، ولا رمضان بأن نجعل نهار رمضان ليلاً وليله نهارًا. هذا تحايل- في رأيي- لنفي الجدوَى المتوخّاة من رمضان على المستويات التربويّة كافّة. تلك الجدوَى التي لا تتأتى إلاّ بأن يكون نظامنا في رمضان نظامًا طبيعيًّا، كسائر الشهور، من حيث ساعات العمل، والراحة. أمّا الصوم نومًا كما يحدث الآن، فأمرٌ ممارس من الكسالى في رمضان وغير رمضان.
وبرنامجي في رمضان فباستثناء ما يميّز الشهر الفضيل في أمور العبادة، لا يختلف في هذا الشهر، سوى في تغيير المواعيد، لمقتضيات العمل والحياة العامة التي أضحت تفرض عليكَ نظامها في كثير من الأمور. على أنه في هذا الشهر يتجرّد المسلم من كل شواغل المأكل والمشرب، التي تتحوّل بالعادة إلى مجرد عادات شواغل، قد لا يحتاجها الإنسان، فيفرغ المرء في رمضان، عقلاً وروحًا، لأداء عمله، وهذا واحد من أسرار الإنجازات التي يستطيع الإنسان إتمامها في رمضان أكثر من أي شهر آخر.
قراءات
س2) ما القراءات التي تخصّها في شهر رمضان الكريم؟ وهل تعتقد أنَّ الأجواء الرمضانيّة قادرة على ممارسة الفعل النقدي في ظل الجو العام ذات السمت الإيماني؟
ج2) رمضان شهر القرآن الكريم، وللقرآن من وقت المسلم في هذا الشهر بالذات خصوصيّة معلومة. غير أن مزيّة الإسلام أنه ليس دينًا كهنوتيًّا ولا رهبانيًّا، فالعمل فيه عبادة، والعبادة عمل، في رمضان وفي غير رمضان. والسمتُ الإيماني- كما ورد في السؤال- ليس محلّه شهرًا مخصوصًا لدى المسلم. من لا يعرف الله إلا في رمضان لا يعي فلسفة رمضان ولا فلسفة الإسلام، حيث لا انفصال فيه بين شأن الدنيا والدِّين. أمّا النقد، فأيّ نقدٍ أبلغ من نقد رمضان لسلوكيّات الإنسان والمجتمع والثقافة؟ بل أيّ نقد كونيّ أبلغ من نقد رمضان منذ نزلت "اقرأ" إلى مختلف المحطّات التاريخيّة التحوّلية التي انطلقت من رمضان؟ إن النظرة السكونيّة القاصرة إلى طبيعة ما تعنيه العبادة والإيمان عمومًا لا تتماشى مع ما يميّز الإسلام عن غيره من الأديان في هذا الباب من حركيّة وتفاعل ورؤية واقعيّة، روحيّة ماديّة معًا.
ما بين الحاضر والماضي:
س3) كيف يقرأ الدكتور عبد الله الفيفي رمضان الآن وفي الماضي؟
ج3) كانت لرمضان في الماضي القريب لذّة أكبر، وذلك قبل أن يكتسح الإعلام المرئي حياتنا وحياة من حولنا. كانت المدارس والمرافق الحكومية في رمضان لا تغيّر مواعيد عملها. كان الناس ينامون بعد صلاة التراويح، وينهضون لتناول السحور وصلاة الفجر، ثم ينطلقون في أعمالهم، كالمعتاد، سواء من حيث طبيعة العمل أو مواقيته. وهنا كان يستشعر الإنسان حضور رمضان في ذاته وفي غيره. أمّا الآن فقد أصبح النظام الرمضاني أمرًا مرسومًا مفروضًا لا مناص عنه، عملاً وعائلة. وهذا أمر مؤسف؛ لأنه- كما أسلفت- يمثّل ضربًا من التحايل على لذة المشقة التي يمرّ بها الصائم، وعلى مردوداتها الصحيّة والروحيّة، حين نعيش أجواء رمضان بشكل طبيعي دون تكلّف قلب نظام حياتنا رأسًا على عقب. لقد كانت طفولتي في جبال فَيْفاء بجنوب المملكة، وهي منطقة جبلية ريفيّة، كانت تنقصها في تلك الأيام- في الثمانينيات من القرن الهجريّ الماضي- شتى الخدمات من طرق ومرافق حيويّة مختلفة، وهو ما تشهد اليوم نقلة نسبية فيه، على الرغم من أنها ما تزال تتطلع إلى اكتمال بناها التحتيّة، في شبكات الطرق، والمياه، والبيئة، والتسهيلات الخدميّة والسياحية، التي يبدو من المستغرب أن لا تتمّ بعد في منطقة استراتيجيّة الجمال كجبال فَيْفاء. في ذلك الماضي أذكر، وأنا في المرحلة الابتدائية، أننا كنا في شهر رمضان نغدو إلى المدرسة كسائر الصباحات في غير رمضان، وتستمرّ الدراسة إلى الظهر أو بُعيده، وقد أذهب بعد انتهاء الدراسة إلى والدي الذي يعمل في المحكمة، لأقرأ القرآن في مكتبه، أو أعمل ما يمكن أن يكلّفني به، حتى نهاية الدوام. وبعدئذ أقضي معه بقية اليوم إلى المغرب بين المسجد والسوق وإنهاء بعض واجباتي المدرسية، وبعد الإفطار في المسجد- على تميرات وماء، وربما ما تيسر من فاكهة، إنْ وُجدت- وعقب أن نصلّي المغرب، نظلّ نقرأ القرآن حتى يؤذن بالعشاء، لنصلي العشاء والتراويح، ثم نؤوب إلى البيت لتناول العَشاء. ثم ننام. وعلى هذا النظام تقريبًا تمضي حياتنا في رمضان. ونحن نُعدّ مرفّهين- بطبيعة الحال- قياسًا إلى من كان عمله في الفلاحة أو البناء ونحوهما من الأعمال. وما كنا نشعر بأن ذلك أمرًا خارقًا لقدراتنا على التحمّل والصبر، وما كنا نشاهد العبوس الذي يميّز وجوه بعض الناس في رمضان اليوم، وذلك لتناقض متطلبات المعدة بين الليل والنهار مع اضطراب أوقات النوم وتناقصها.
لم يكن رمضان يشكّل أزمة، تُستنفر لها كل الفعاليّات كما يحدث الآن، وكأن الناس مقدمون على كارثة أو حرب!
إلغاء المسافات:
س4) يقول الماغوط في سيرته: "أريد أن ألغي المسافة بين هذه التعريفات: النثر، الشعر، المقالة. كلها عندي نصوص". ماذا يقول الشاعر والناقد عبد الله الفيفي؟
ج4) القول بإلغاء المسافة بين الأجناس الأدبية حلم، لكنه يظلّ مشروعًا إن أثبت وجوده. فلكل جنس أدبي خصائصه، التي تجعل له قيمته النوعية وجمالياته الفارقة. ولقد ذكرتُ في دراسات لي، ككتابي "حداثة النصّ الشعري في المملكة"، أو دراسة ألقيتها مؤخرًا في (سوق عكاظ): أن مصطلح قصيدة النثر، على سبيل المثال، كما تمخّضتْ عنه التجاربُ العربيّة حتى الآن، إشارة ملتبسة إلى ما كان يسمّى قديمًا بالأقاويل الشِّعْرية، أو الإشراقات الصوفيّة، أمّا الشكل المدّعَى لقصيدة النثر فليس بالجديد على النثر العربي. ولقد سمَّى (جورجي زيدان) ما نشره (أمين الريحاني) في ديوانه "هتاف الأودية"، سنة 1905، من تلك الكتابة المجرّدة من الوزن والقافية: شعرًا منثورًا. والريحاني كاتب خطيب، أكثر منه شاعر، عاش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحادية عشرة من عمره، ثم تعلّم قواعد العربيّة على كبر. وكان قد تحدّث الريحاني نفسه عن هذا الشكل الكتابي باسم "الشِّعْر النثريّ"، وشبّهه بشعر الأمريكي (والت وايتمان)، في ديوان "أوراق العشب Grass leaves". ثم خَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ ارتضوا النثر شعرًا، كأدونيس، وجبرا إبراهيم جبرا، وشوقي أبي شقرا، ومحمّد الماغوط، ويوسف الخال، مع أن برنار نفسها- منظّرة قصيدة النثر- لا تعدّها شعرًا. ولا بُدّ لكل تمرّد من تمرّد عليه، وكل ثورة تُضطر بعد حين إلى ثورة، وإلا أصابها العيّ، فالهلاك. وليس التمرّد ولا الثورة باتجاه مضادّ للماضي، وإلاّ كانت تلك حركة عَقَديّة مُغرضة، بل إن البحث الصادق عن الأجمل والأكمل، حيثما وُجدا، لا يستنكف من الثورة على حاضره بماضيه، إذا لزم الأمر. وما يقوله الماغوط- فيما نسبه إليه السؤال- يعني إذن أن قصيدة النثر نصّ ملتبس، لا شعر بالضرورة، حسب تعريف الشعر وطبيعته الفارقة. وهذا ما أقول به. ذلك أنه حينما ينسف النصّ الحديث ذلك الرصيد الفنّي العتيق من حسابه، فيُنتج نصًّا مغايرًا، غير إيقاعيّ، ومع ذلك يحتفظ بسحره الشاعريّ، كما هو الحال في بعض نماذج قصيدة النثر، فذلك رائع، إلا أن روعة المنجز تنتقص بالإصرار على ربطه بجنس الشعر تحديدًا، كما عَرَفَه الإنسان منذ الأزل إلى الآن. فلماذا لا يُعدّ إنجازًا أجناسيًّا جديدًا؟! ومن هذا المنطلق فإن بإمكان قصيدة النثر أن تكون جنسًا أدبيًّا، قائمًا بذاته، له رصيده من الماضي ومغامراته المهمّة في الحاضر والمستقبل. ولِمَ تقييد قصيدة النثر بالشِّعْر أو بالنثر، كما تساءلنا في مقاربة سابقة لهذا الموضوع؟ ألا يمكن أن يوجد نصّ عابر للشِّعْر والنثر؟ النص الحديث حافل بخروقات كثيرة لهياكل الأجناس الأدبيّة، ففي نماذج قمتُ بدراستها كشفتُ، إلى جانب ما سُمّي في القرن الماضي (شعر التفعيلة)، عمّا أسميته (شعر التفعيلات): أي أن لا يتقيّد الشاعر بتفعيلةٍ واحدة في القصيدة، بل ينداح في موسيقى الشِّعْر العربيّ، ليبتدع أشكالاً مختلفة تمليها عليه التجربة. كما وجدت أيضًا أن النص الواحد، ممّا يصنّف في قصيدة النثر، قد يمزج بين مقاطع تفعيليّة، يمكن أن تعد شعر تفعيلة، ومقاطع نثريّة خالصة، ولذلك اقترحتُ لذلك الشكل مصطلحًا مركّبًا منحوتًا من "قصيدة تفعيلة" و"قصيدة نثر"، وهو "قصيدة النثريلة"، أي "قصيدة النثر تفعيلة". إن من ضيق الأفق أن تُؤخذ النصوص بين حَدَّي الشِّعْر والنثر إذن، وفي ذلك جناية على النصّ، وتقييد لمشاريعه عمّا تطمح إليه من انعتاقات وثورات، وذلك بإعاقة حركة الإبداع بقسرها على ولوج قالبين خرسانيين موروثين، أحدهما اسمه: شِعْر، والآخر اسمه: نثر، ولا ثالث لهما. لكن ذلك لا يعني في المقابل إلغاء هويّات النصوص، ولا يسوّغ نفي الأجناس الأدبيّة بشكل مطلق، غير أن ابتكار المصطلحات المناسبة لابتكارات النصوص هو ممّا يدخل في مهامّ النقّاد لا المبدعين.
س5) هل ترى أنَّ الحركة الإبداعيّة العربيّة استطاعت التخلص من القيود المتشابكة, وأصبح المبدع يلعب على أوتار الشكل والمضمون, وإحداثيات اللّغة والخطوط الحمراء خوفًا من تعرية سوءته أمام الرقباء؟
ج5) سيظلّ التوجّس من الكلمة قائمًا ما بقي الإنسان. والأدب من إحدى وظائفه الثورة على الراكد، والتطلع إلى الآتي، والحُلم بالأفضل. وهذا يتعارض مع بعض المصالح في كل زمان ومكان. وفي الوقتِ نفسه، هناك من يتخذ الإثارة لعبة يسعى بها إلى الشهرة، دون قضيّة، أو دون رؤية أو فكر. وكما يصدّه الرقيب، يصفّق له بعض الجماهير، ممّن يتفقون معه في الميل والهوى، بصرف النظر عن أدبيّة الأدب. وقد يجد ذلك النوع من الكتاب ضالّته بين الصدّ والتَّصْدِيَة، من حيث إن منع الرقابة أصبح الآن أكبر دعاية لمثل تلك الأعمال، وقد تُفاخر بأنها ممنوعة، بل قد تتحرش عن عمد بالرقابة بهدف استفزازها لمنعها، كي تتظاهر أمام الملأ بأنها ذات قضايا كُبرى، وخطورة عظمى، أمّا السوق فكل ممنوع فيه مرغوب. وبين تلك المستويات لا يبقى إلا العمل القيّم، الذي يحمل رسالة واعية، ولا يغفل عن طبيعة الأدب، التي لا تشفع لفنّياتها أهميّة المضامين. أمّا الرقابة فقد آن لها أن تعي أن المنع لم يعد سياسة حكيمة، بل قد تخدم بعض الأعمال أكثر من أن تحجبها أو تحجمها، وأنه قد بات من المستحيل منع أي مادة ثقافية اليوم. فلتعمل قنوات الإعلام على إيصال خطابها، توعيةً، وتحصينًا، بعيدًا عن سياسة المنع والقمع، التي تخطّاها العصر عبر ثورة الإعلام وتقنية الاتصال والمعلومات التي تهطل كالمطر.
القصة المشعرنة:
س6) يظهر جليًا تفشي القصة المشعرنة (إن صحت التسمية) ذات الموسيقى الشعرية, هل تراه يتناسب وخط الرواية الأسلوبي ؟
ج6) ذلك ما أطلقتُ عليه، في مقاربات نشرتها منذ عام 2000 تقريبًا، مصطلح "القصـيدة- الرواية"، كما شاركتُ ببحث في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي، حول "البلاغة والدراسات البلاغية"، في القاهرة 1-5 نوفمبر 2006، بورقة بحث بعنوان "القصـيدة- الرواية: تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر". ذلك أنه إذا كانت الرواية في العصر الحديث قد جاءت وريثة الملحمة الشعرية، فإن "القصيدة-الرواية" تأتي بمثابة ارتدادٍ إلى نوع من ذلك الجنس الأدبي المهجور. غير أن "القصيدة-الرواية" تتخلص من حدّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين- الشعريّ والروائيّ- كي تُنشئ نمطاً جديداً من التماهي بينهما، وإن كانت كفّة الشعريّ فيهما تميل إلى الرجحان. وفي البحث عن مصطلح ملائم، فإن قصارى ما يلفيه الباحث في النقد الأدبي الحديث هو مصطلح كـ"الرواية الشعرية"، لدى جان إيف تادييه Jean Tadi’e. وهو مصطلح يعبّر عن اختلاط الشعر بالنثر، في ضرب من تقنيات الخطاب الروائي الحديث. أي أن مصطلح "الرواية الشعرية" ما هو إلا محاولة لفرز تلك الرواية المتميّزة بمسحة شعرية عن الرواية النثرية الاعتيادية. فهو إذن نظير مصطلحات سردية أخرى، كـ"الرواية البوليسية"، أو "الرواية الغرائبية"، أو "رواية المغامرات". أمّا دراستي المشار إليها فكانت بصدد ما أثاره السؤال، أي تجاوز فضفاضية ذلك المفهوم عن "الرواية الشعرية"- الدائر في فلك الرواية أصلاً، بوصفها جنساً أدبيّا- من حيث إن النماذج المدروسة تكاد تمّحي هويتها الروائية في شعريتها المطلقة، ما يسوغ أن يُتّخذَ له مصطلح جنسيّ جديد، أشد تحديداً وأضيق تبئيراً، يجاري هذا التطوّر الكتابي ويلائم طبيعته، ألا وهو: "القصيدة-الرواية". ولقد تناولتُ بالدراسة ثلاثة أعمال سعودية من ذلك النوع، هي "سقف الكفاية"، لمحمد حسن علوان، 2002، و"الحزام"، (لأحمد أبي دهمان)، الترجمة العربية: 2001، وقبلهما: (علي الدميني)، في "الغيمة الرصاصية"، 1998. وهذه الكتابات شاهد آخر على أن النص الحديث يحاول تخطّي القوالب التقليديّة؛ فكما ينزاح من الشعريّة إلى النثريّة، في "قصيدة النثر"، أو "قصيدة النثريلة"، تراه ينزاح في الاتجاه المعاكس من النثريّة إلى الشعريّة في "القصيدة- الرواية". وهي محاولات مثرية، كما أسلفتُ، شريطة أن لا نظلّ نلصقها بالأجناس الأدبية المألوفة، ولا نحاكمها وفق قوانين تلك الأجناس.
االقراءة النقدية:
س7) ما الأدوات التي تكون حاضره بين يديك لنقد أي نص؟
ج7) لكل نصّ خصوصيته، وهو يقترح أدوات مقاربته. وأيّ نصّ لا يفرض على الناقد مراجعة أدواته، هو نص تقليديّ، أو ضعيف. وأي مقاربة لا تستجيب لنداءات النصّ المختلفة تظل عملاً مدرسيًّا، لا يكشف جديدًا. القراءة النقديّة هي مغامرة استكشافية، فيها أدوات العلم والذوق، فيها الموهبة والخبرة والمعرفة. وتلك أدوات أساسيّة، ما لم تتوافر للناقد خرجت النتائج عرجاء أو عوجاء. من حيث إن الأدب ليس بعلم، وليس النقد كذلك بعلم بحت، بل هو في منزلة بين المنزلتين، بين العلم والفنّ. وعليه، لا بُدّ أن تشتغل فيه كل ملكات الناقد ومعارفه. وسيبقى العمل النقديّ في نهاية المطاف، وفي كثير من جوانبه، اجتهادًا، أو قراءة، لا تُلغي احتمالات قرائيّة مغايرة، وإن كان يسعى ما وسعه السعي إلى الانطلاق من مرتكزات موضوعيّة والانتهاء إلى نتائج علميّة. تلك هي طبيعة الأدب التي لا ينجو النقد من عدواها، مهما ادّعى العلميّة.
س8) البعض ينفي عن الأدب العربي الحديث أن ليس له نظرية واضحة المعالم وينادون في المقابل بتأسيس نظرية له.. ما رأيك في هذا القول؟
ج8) الأدب هو الأدب، عربيّ وغير عربيّ. له نظريّة إنسانيّة عامّة، تتعلق بطبيعته ووظائفه وأجناسه وخصائصها. ولا يمكن أن يكون لأدب أمّة ما نظريّة مستقلّة في الأدب.
|