القِيَم الإنسانية من مسلّمات الطبع الإنساني السويّ في كل عصر وثقافة. ومع هذا فهي تشكلّ كل حياة الإنسان، في حالتي وعيه أو لا وعيه، أي أنها من الخطورة في البناء الشخصي والاجتماعي والحضاري، بحيث يغدو البحث فيها من أشدّ القضايا ضرورة وإلحاحاً في أمّة نابهة. فلا غرو إذن أن كانت مدار رسالات الأنبياء ومحط انشغال الثوار والمصلحين، في كل زمان ومكان.
وما طموح الباحث مع موضوع كهذا إلا كطموح ابن خلدون حينما ألفى مادة التاريخ بين يديه قد كُتبتْ، فطمح إلى أن يؤسّس من خلالها منهجاً علميّاً مبتدعاً، هو "علم التاريخ"، يكون من أهدافه مجاوزة السرد والتسجيل لحوادث التاريخ إلى تحليل الوقائع التاريخية ومقايستها ومقارنتها، لاستنباط أجهزة النُّظُم الكلية التي تحكم وجودها وتحركاتها. ذلك أن هذه الدراسة في نقد القيم تجري منطلقةً أساساً من تلك المادة العلمية القيّمة التي حوتها موسوعةٌ نشرت في الرياض عام 1421هـ= 2000م، تحت عنوان "موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية". وكأنما لتاريخ النشر هذا في ذاته دلالته؛ إذ يأتي على مشارف قرن جديد وألفية ثالثة من حياة العرب والإنسانية.
ومن ثم فإن هذه القراءة لتتطلّع بمراودة هذا الحقل إلى اجتراح أُفُقٍ بحثيٍّ، نحو ما يمكن أن يُفضي في مستقبل الأيام إلى علم جديد هو: "علم القيم الإنسانية"، يقف في مصاف العلوم القاعدية النافعة للمجتمع البشري. وهو علم بوسعه أن يتصدّى لدراسة القوانين الكامنة وراء القيم، نشوئها وحركاتها عبر التاريخ، كما سيدرس حالات انقراض القيم وتبدّلاتها، على غرار ما هو حادث- أزلاً أبداً- في مختلف الظواهر الاجتماعية والطبيعية. ويومئذ ستُستكمل بهذا العلم حلقة جوهرية في دراسة الإنسان والحياة الاجتماعية، ما زالت تبدو- إلى اليوم- مجهولة، على الرغم من تقدم العلوم الناشئة في القرنين الماضيين، على أصعدتها الشتى من دراسة الفرد، والمجتمع، والأخلاق، والتاريخ، والحضارة. ذلك أن البناء الثقافي الذي تسعى إليه أيّ أمّة لا يُشادُ إلاّ وفق خارطة لشبكات من القيم المستحدثة أو الموروثة. ولن تكون تلك الخارطة صحيحة الدلالة في سبيل النهوض بالحضارة الإنسانية ما لم تخضع لمراجعة ونقد مستمرين، بعيداً عن الإيمان المطلق بأن كل موروث قيمة وكل سائد حق.