محمود درويش:4.مقالات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net

محمود درويش وشِعريّة الموقف!

محمود درويش مدرسة مهمّة في تاريخ الشِّعر العربيّ. لعلّ من أبرز مميّزاته أن الجماهيريّة التي حظي بها لم تجرفه غالبًا إلى التنازل عن لغة القصيدة وطموحاتها العليا، إرضاء للمتلقّي، وذلك ما وقع فيه غيره.
وعلى الرغم من تقبّل درويش لتجربة قصيدة النثر- بوصفها شِعرًا- وخوضه في التنظير الخطابي لمفهوم "الشعريّة"، كما يتضح من كلمته البيانية في الذكرى الأربعين لرحيل محمد الماغوط، في دمشق 2006، فقد ظل أمينًا لذاكرته الموسيقيّة الشعريّة. ومع هذا فإن المتتبع لتجربة درويش سيلحظ أنه- بعد مشواره الطويل من القصيدة البيتيّة، إلى شعر التفعيلة، مرورًا بما أسميته لديه ولدى غيره بـ"شعر التفعيلات"، حيث المزج بين بعض الأنساق التفعيلية المتجاورة في دوائر العَروض العربي- قد سار في أعماله الأخيرة إلى تنثير اللغة الشعريّة. مثلما كان قد أخذ في أعماله الأخيرة يعتمد على شِعريّة الموقف، لا شعريّة اللغة، حتى لو جُرّد النصّ من التفعيلة، لجاء قصّة قصيرة جدًّا. وذلك ما يُلحظ على سبيل المثال في قصيدة "اللا مبالي"، في مجموعته النصوصيّة "أثر الفراشة"، (2008)- وهي خليط من نصوص شعريّة ونثرية، اختار المؤلِّف أن يسميها: "يوميّات"- وكذا في بعض نصوصه في مجموعته السابقة "كزهر اللوز أو أبعد"، (2005).
لذا، قد يمكن القول: إن النموّ التجديديّ (الحقيقي) في شِعر درويش قد توقّف في الثمانينيّات من القرن العشرين تقريبًا، ثم ظلّ ينسج على منوال منجزه، ويحفر فيه. ولعلّ تجربته النثريّة في المرحلة اللاحقة لا تقل أهميّة عن شِعره، إنْ لم تفقها، وذلك كما في "الرسائل"، بينه والشاعر سميح القاسم، أو في كتابه "ذاكرة للنسيان"، (1987).
وإذا كان درويش قد حَصَر شِعره- إيقاعيًّا- في التفعيلة، إلاّ نادرًا، فإنه في بعض مجموعته الأخيرة "أثر الفراشة" قد عاد إلى بحور الشعر العربي مجدّدًا، وإنْ على استحياء. وتأتي قيمة تلك الأوبة إلى العروض العربي من أنها تعبّر عن عدم قطيعته الحداثيّة مع الشعر العربي في قوالبه الأصيلة. كما أنها تدلّ على وعي بإمكانية تحديث التراث من خلاله، لا من خارجه، وأن بالإمكان تفجير أشكال لا نهائيّة من "عرابسك" العروض العربي.
يظلّ درويش (رحمه الله)- مهما اختلفنا حول تجربته الحياتيّة أو الشعريّة- أحد شعراء العربيّة الكبار في العصر الحديث.

الشاعر والناقد
الدكتور عبدالله بن أحمد الفـَيْـفي
(أستاذ النقد الحديث جامعة الملك سعود- الرياض)
الأحد 9 شعبان 1429هـ

[ نُشر المقال في صحيفة: "النصر" الجزائرية، أغسطس 2008 ]





شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

أنت الزائر رقم:


FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©