الشكّ واليقينيّة في الشِّعر:5.لقاءات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net
الشكّ واليقينيّة في الشِّعر
الشاعر الناقد: د. عبدالله بن أحمد الفَيفي
س) هل من المهم والضروري أن يكون الشاعر على يقين بشعريته ؟ أم من الأحسن أن يكون على شك بها حتى لا يصاب نصه بالسكتة الشعرية وحتى لا يصاب هو بالسكتة الإبداعية؟
...................
تحقيق صحفي: نوارة لحرش- الجزائر
مجلة (الجسرة)، مجلة فصلية ثقافية ، تصدر عن نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي بقطر ، ربيع 2008، ص36- 37.
د.عبدالله بن أحمد الفَيْـفي:
ج) من لا يشكّ في منجزه الشعريّ، ولا يقلق عليه، فليس بشاعر، بل هو مجترّ!
بيد أن الشكّ نواعان: شكّ منبجس عن حيويّة تجديديّة واعية طامحة إلى التطوير، وشكّ مرضيّ، لا ينتج بل يثبّط، ويخرّب التجربة الشخصيّة والرصيد الإنساني العام.
إن معنى أن يكون الإنسان شاعرًا مرادف لمعنى أن يكون إنسانًا بامتياز. والشاعر- في تصوّري- هو ضمير الإنسانيّة، عليه وله ما ليس على غيره ولا لهُ. من حيث هو الناطق الرسمي باسم هموم الإنسانِ، وتعبه، وقلقه، ومخاوفه. ويظل الشاعر "على قلقٍ كأنه الريح"، لا "كأن الريح تحته" فقط، كما قال المتنبي! غير أن الشاعر الذي ينحبس شكّه في ذاتيّاته ليس بشاعر بما تعنيه الكلمة من معنى، فالشكّ الوجودي، والشكّ الحضاري، والشكّ الثقافي، والشكّ الشعري، والشكّ المصيري، هو المقصود. وليست تنفصل الذات عن الجمع، ولا عن المنتَج، في كل حال.
قَدَر الشاعر أن يكون هكذا. وهو يتجلّى في ذلك أكثر من غيره لأنه يتعامل بسحر اللغة، واللغة ملَكَة إنسانيّة مشتركة، وهي محمّلة بما نعي وما لا نعي من شؤون الحياة، والماضي والحاضر والمستقبل.. هي دماؤنا، التي لا تسري في عروقنا فحسب، ولكن عبر أجيالٍ منّا أيضًا، ماتحةً من لا وعينا الجمعي ولا وعينا الفردي. فتسمو على غيرها لتلك الخصائص. وإلاّ فأيُّ مبدعٍ شاعرٌ بشكل أو بآخر، إذا استشعر دوره الحقيقي، كان بالفعل لسان ذاته وأهله وناسه، القلق على المستقبل.
إن للشعر، بوصفه جنسًا أدبيًّا، مزيّة الوصول إلى روح الإنسان أينما كان، بلا أبواب ولا حُجب ولا استئذان. كم إنسان عربي يردّد بيتًا شعريًّا أو قصيدة بل قصائد- وإن لم يكن متعلّمًا، وربما لا شأن له بالشعر بصفته فنًّا- ولكن في المقابل كم إنسان عربي قرأ رواية أو قصة قصيرة؟! من هنا كان الشعر: الماء الذي تتنفسه أسماك الروح، بلا تطلّب ولا استعداد. نعم، قد يكون للعرب في هذا قِدْحهم المعلّى، بما هم أُمّة شاعرة، لكن الناس كافة شركاء في هذا بدرجات متفاوتة. ولذا، أنا أَعُدّ أي هجمة على الشعر، أو تشكيك في دوره، أو تقليل من شأنه، أو وقوف في وجه تطويره، أو تهجين له بمسخه بغيره، إيذانًا بهجمة على إنسانيّة الإنسان، أو تهميش لوجوده.
القصيدة هي رئة الإنسان الخالدة! على أن ميزتها كذلك أنها ليست رئة فرديّة، بل هي رئة جماعيّة، وليست برئة جماعيّة لجيل واحد، ولكن لجميع الأجيال. إن القصيدة أوّل ما صنعه الإنسان من أنفاس الفردوس، وهي مستهلّ إبداعه من أول عِلم لقّنه الله إياه، عِلم الأسماء واللغة، وستبقى جناحه للعودة إلى فردوسه المفقود ولغته البِكر، إلاّ إذا تحوّل- لا سمح الله- إلى إنسان آليّ، أو ببغاء، يردّد ولا يبدع، سواء ردّد موروثًا أو ردّد مستوردًا!
إن الشعراء قد يغوون ويتّبعهم الغاوون، "إلاّ الذين آمنوا وانتصروا...". وعندي أن هذه الآية القرآنية بمثابة نظرية شعريّة، وإن فُهمت سطحيًّا على أنها موقف إيديولوجيّ من الشعر، أو نظرة (أفلاطونيّة) إلى وظيفته. فهي ترسم للشاعر طريقه القويم، دون أن تحرمه حقّه في التعبير والتخييل والتجديد، لا تجديد النص وحده، بل تجديد الحياة، والانتصار عليها. وهذا ما يلقي بظلاله إليه معنى استثناء الآية "إلاّ الذين آمنوا وانتصروا من بعد ما ظلموا". إنه إلحاحٌ على (الشاعر الضمير)، لا المنافق، ولا المزيّف الدجّال، الذي يتخذ الشِّعر بضاعة وحرفة، كما يتخذ الساحر السِّحر لقلب الحقائق، أو الحاوي الثعابين للتسلية والتهويل. ولكن أين هُم الشعراء الضمائر، وكلٌّ يغنّي على ليلاه؟!
من هذا المنظور الشاعر يبدو وجهًا آخر للقصيدة. بل القصيدة- في رأيي- وجهه الأوّل والأخير! وإذا كان الأسلوبيّون قد قالوا: "الأسلوب هو الرجل/ الإنسان"، فالقصيدة هي أُمّ الأساليب الإنسانيّة. ولكن متى؟ حينما يكون الشاعر شاعرًا والقصيدة قصيدة والقارئ قارئًا. أمّا حين تفتقر القصيدة إلى الصدق، ويفتقر القارئ إلى مؤهّلات القراءة، فلا يمكن السؤال حينئذ عمّا ستحدث من مفارقات، لا يُعرف فيها وجهٌ من قَفَا!
مرض الشكّ الإبداعي هو صحّة الشِّعر والشاعر، إن شُفي منه، مات بالسكتة الشعريّة، لكن من لُطف الله أن هذا ما لا يحدث للشاعر الشاعر، بل للأدعياء، وراكبي الموجات العابرة. ومن لطف الله بعباده كذلك أن تحدث السكتة الشعريّة لهذه الفئة الأخيرة، لتكفّ شـ[ع]ـرهم عن الناس!