عاصمة ثقافية بامتياز:5.لقاءات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net
عاصمة ثقافية بامتياز
المناسبات الثقافية المتزامنة.. ظاهرة إيجابية أم سلبية؟
د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي
تهطل الفعاليّات الثقافية علينا أحيانًا كالمطر الموسمي على الصحراء، ليمرّ حين من الدهر ينقطع فيه القطر، ولا يجدي نفعًا معه الاستسقاء!
في عاصمة كالرياض لا غرابة أن تقوم مثل تلك الفعاليات الثقافيّة المتكاثرة في أوقات متقاربة، أو حتى متزامنة، لكن الغرابة تبدو في وجهين:
1) أن تظلّ بعضها فعاليات شكليّة، تكرّر نفسها، وتدور في فلك الأسماء عينها، المحفوظة منذ سنين.
2) أن تنقطع أشهرًا لتهبط فجأة، دفعة واحدة. ذلك أن الثقافة لدينا ما زالت تكيّف كالولائم والمناسبات الاحتفاليّة، بحسب الظروف، وليست وفق برامج محدّدة ومستمرّة.
المعيق لجدواها في كل الأحوال أنها فعاليّات تتوقّع من الناس أن يتابعوها حضوريًّا! فربما جاءت المرءَ عدةُ دعوات إليها في وقت واحد، متضاربة زمنيًّا، متعارضة حتى مع وقت عمله الوظيفي أحيانًا. فإمّا أن يقسّم نفسه، ويخلّ بجدول أعماله، ويحضر، وإلاّ كان خارج الساعة الثقافيّة!
لماذا؟
لأن هذا كله يتمّ في ظل غياب إعلاميّ حيّ يواكب ما يحدث، اللهم من خلال نشرات صحفيّة، أو متابعات إخباريّة، لا تُسمن ولا تغني من جوع. ودور الإعلام اليوم ليس الإخبار فحسب، ولكن أيضًا تجسير المسافة بين الحدث ومتابعيه بشكل مباشر. لذلك تظلّ معظم تلك الفعاليّات احتفاليّات بلا ثقافة، لا لتزامنها وتعذّر حضورها فحسب، ولا حتى لطبيعة ما يُطرح فيها ومدى جدّيّته وجدواه، ولكن كذلك لعدم خدمة الإعلام نشاطنا الثقافي بما يكفي. الإعلام الذي يتفرّغ تمامًا لبثّ الفعاليّات الرياضيّة، أو لبثّ الفعاليّات الفنّيّة، لم ير بعد أن من واجبه أن يفعل مثل ذلك للفعاليات الثقافيّة.
لقد قلتُ مرارًا: إن الثقافة في بلادنا كانت حريّة بقناة ثقافيّة سعوديّة لمواكبة مثل تلك النشاطات المحمومة. وقد كان تفاءَلَ كثيرون بأنه بضمّ الشأن الثقافي إلى وزارة الإعلام ستُمنح الثقافة حقّها على غرار الرياضة في أهون الأحوال، ولاسيما بعد ما تنادى إليه الجميع من حركة إصلاح فكري، ومع نشوء مركز الحوار الوطني، وبالاتفاق على أن معالجة ظواهر فكرية واجتماعية- كالتطرّف والغلو مثلاً- لا يمكن أن تكون معالجة أَمْنِيَّة، بل قبل ذلك ومع ذلك وبعده يجب أن تكون معالجة ثقافيّةً فكريّة. هذا إلى جانب هدرٍ ثقافي محلّيّ يعوزه التوثيق والبثّ الإعلامي، كذلك الذي يجري من خلال مهرجانات مهمة، كمهرجان الجنادرية، ومهرجان سوق عكاظ، وغيرهما، إضافة إلى معارض الرياض الدولية للكتاب وفعالياتها، والنشاطات السنوية للجوائز العلمية والفكرية والأدبية، وفي طليعتها جائزة الملك فيصل العالميّة، وكذا فعاليات التنشيط السياحي في المملكة، وأنشطة الأندية الأدبية الثقافيّة المختلفة، وغير هذا كثير جدًّا. كل ذلك غذاء ثقافي متنوّع كان يمكن أن يستثمر، وهو يستأهل أكثر من قناة لا قناة واحدة، في مسعى إلى جعل الثقافة رئة وطنية، وجسرًا عالميًّا.
لقد آن إذن- من وجهة نظري- أن تكون لنا قنوات ثقافيّة تسعى إلى الأهداف الاستراتيجية الوطنية المشار إليه. كما يمكنها- فضلاً عن ذلك- أن توصل صوتنا الثقافي إلى العالم، وبدرجة أكثر نجاعة، وأقلّ كلفة، من الاتكاء على إقامة الأسابيع الثقافيّة خارج المملكة. شريطة أن لا يقتصر دور القنوات الإعلاميّة المنشودة على التغطية الإعلامية، بل تسهم في إثراء الحقل المعرفي والفكري بالتحليل والحوار. كما أنه ينبغي لقنوات كتلك- لو وُجدت- أن لا تكون جافّة، محصورة في بث الندوات والمحاضرات، بل تضطلع ببث النشاطات المسرحية والفنّية والسينمائيّة، ونحوها. وكان هذا سيغدو من عوامل توطين هذه الفنون، التي لا حضور لها في الداخل، وإن كانت تسوّق في الخارج على أنها جزء من واقعنا الثقافي الحيّ!
هنا يكمن الخلل في إدارة الثقافة على نحو عصريّ فعّال، وفي تنظيم فعالياتها بصفة تراعي تعقيدات الحياة اليوم، وإتاحة تلقيها على نطاق واسع، وبأسلوب يواكب المستجدات، بحيث لا يُحرم كثيرون من متابعة الأنشطة المختلفة والإفادة منها، ذلك الحرمان الذي ينشأ إمّا لتزامنها، أو لتعارضها مع ظروفهم، أو لبعدهم عن أماكن إقامتها. كما أن الأخذ بوسائل الإعلام الحديثة تلك كان سيلغي بعض العجز في فترات البيات الصيفي وغير الصيفي، التي تبدو خالية غالبًا من الحراك الثقافي.
إن الثقافة اليوم لم تعد: محاضِرًا يلقي دُرره السنيّة على الجماهير من علوّ منبره، وجماهير تتجشّم المشاق وتقطع المسافات للتحلّق حول المحاضِر، كي تتلقّف ما يلقي عليها وتهزّ الرؤوس!
الرياض، الخميس 5 ربيع الأول 1429هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لمجلة "أحوال المعرفة"، أبريل 2008، تحقيق: فوزيّة الجلال، ص31- 32.