من أنواع الشرك الأكبر ( في الألوهية
) :
شرك الدعاء
قال
تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}
[العنكبوت:65].
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في
البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدّينَ}، يقول: أخلصوا لله عند الشدة التي نزلت بهم التوحيدَ، وأفردوا
له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ولكن
بالله الذي خلقهم. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ}، يقول: فلما
خلّصهم مما كانوا فيه وسلّمهم فصاروا إلى البر إذا هم يجعلون مع الله
شريكاً في عبادتهم، ويدعون الآلهة والأوثان معه أرباباً"[1].
وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ
يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّـالِمِينَ
* وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ
كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس:106، 107].
قال ابن جرير: "ولا تدع ـ يا محمد ـ من دون معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك
في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة
والأصنام، أي: لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها، فإنها لا تنفع ولا
تضر، {فَإِن فَعَلْتَ} ذلك فدعوتَها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ
الظَّـالِمِينَ}، يقول: من المشركين بالله الظالمين أنفسهم"[2].
وقال سليمان آل الشيخ: "والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك
أكبر، ولهذا قال: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ
إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}
[يونس:107]، لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع، ولازم ذلك
إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان، وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب
الخير، لأنه لا يكشف الضر إلا هو، ولا يجلب الخير إلا هو، {مَّا يَفْتَحِ
اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ
فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[فاطر:4]، فتعيّن أن لا يدعَى لذلك إلا هو، وبطل دعاء مَن سواه ممن لا
يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره، وهذا ضدّ ما عليه عبّاد القبور،
فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون
ويضرون، ويمَسّون بالضر ويكشفونه، وأن لهم التصرف المطلق في الملك"[3].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَـامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ
غَـافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ
كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـافِرِينَ}
[الأحقاف:5، 6].
قال سليمان آل الشيخ: "حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضلّ
ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة مَن هذه
حالُه، ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضُّلاَّل كلِّهم أبلغ
ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على
تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم، ولا قدرة به على
استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة"[4].
وقد قـرّر العلماء أن دعاء المسألة ودعاء العبادة متلازمان، قال سليمان
آل الشيخ: "واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، ويراد به في
القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان.
فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، فالمعبود لا
بد أن يكون مالكاً للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من
دونه ما لا يملك ضراً ولا نفعاً كقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وذلك كثير في القرآن، فهو يدعي
للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعي خوفاً ورجاء دعاء العبادة، فعلم أن
النوعين متلازمان، فكل دعاء عبادة مستلزم دعاء المسألة، وكل دعاء مسألة
متضمن لدعاء العبادة، وهذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن
إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة، فكيف وقد ذكر الله في القرآن في
غير موضع، قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}
[الأعراف:55]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}
[السجدة:16] وغير ذلك"[5].
وقد نص العلماء على أن من صرف شيئاً من نوعَي الدعاء لغير الله فهو مشرك.
قال ابن تيمية: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكّل عليهم يدعوهم
ويسألهم كفر إجماعاً"[6].
وقال ابن القيم: "ومن أنواعه ـ أي: الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى،
والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم"[7].
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "ومن نوع هذا الشرك أن يعتقد الإنسان في
غير الله من نجم أو إنسان أو نبي أو صالح أو كاهن أو ساحر أو نبات أو
حيوان أو غير ذلك أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو
دفع مضرة"[8].
وقال سليمان آل الشيخ: "فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من
نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله
وصلى وصام؛ إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله،
فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما،
كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون، ومجرّد التلفّظ بهما
لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعاً"[9].
-----------
[1] جامع البيان (10/159).
[2] جامع البيان (6/618).
[3] تيسير العزيز الحميد
(237-238).
[4] تيسير العزيز الحميد (239).
[5] تيسير العزيز الحميد
(215-216) بتصرف واختصار.
[6] انظر: الإنصاف (27/108) مع
المقنع والشرح الكبير.
[7] مدارج السالكين (1/375).
[8] الدرر السنية (4/7).
[9] تيسير العزيز الحميد (227).
|