تركي الحمد: خيرتنا فاختر!
" ثقافة
المملكة العربية السعودية تنتمي إلى عصر غابر.إنها ليست مناسبة لعصر
العولمة.الخطوة الأولى هي تغيير مفهومات الناس، ومواقفهم تجاه
العالم،وتجاه أنفسهم والبلدان الأخرى. لقد حشيت عقولهم في الماضي
بمفهومات سيئة، ولذا يجب علينا أن نغير عقول الناس. لكنك لو بدأت بالقمة
ونسيت القاعدة، فأعتقد أن ذلك لن يقود إلى شيء ".
هذه
الكلمات التي نشرتها مجلة تايم الأمريكية
في الخامس عشر
من أيلول(سبتمبر)2003
لم
يكتبها توماس فريدمان,
ولا أ. روزنتال, ولا فؤاد عجمي, ولا برنارد لويس ,ولا غيرهم من البنادق
الموجهة إلى العرب والمسلمين. كاتب
هذه الكلمات سعودي يزعم أنه يدافع عن كيان المملكة وإنسانها..إنه
تركي الحمد.
وما قاله الحمد باختصار في (تايم) يفصله في مقالاته الدورية التي تنشرها
له جريدة الشرق الأوسط،
لكنه يغلف هذه
المقالات بسياج من الغموض المقصود، والمراوغة اللفظية،
مداراة - ربما- لشعور قراء العربية.
في آخر مقال له نشرته الشرق الأوسط في الحادي والعشرين من شهر
أيلول(سبتمبر)2003
قدم الحمد
ماعده وصفة "لتماسك الكيان" وإنقاذ "قيمة الإنسان" في السعودية،
وأجهد نفسه في التنقيب عن أسانيد
لوصفته تلك من
بين مخلفات النظريات الغربية.
بيد أن وصفته
لم تكن أكثر
من مشروع كارثة، أو طبخة مسمومة
, لا أعتقد أن سعوديا راشداً يقدم على تناولها مهما أحاطها الحمد بزخرف
القول، والادعاء الأكاديمي الفج، والتأطير النظري منبت السياق. تحدث
الحمد عن المشكلات التي تواجه السعودية عشية احتفالها بيومها الوطني
الحادي والسبعين. وكعادته
في النظر إلى قيمنا وأوضاعنا بعيون غربية
(وأمريكية تحديدا) راح يبكتنا لأننا مازلنا نقيم للمقدس شأنا، ما يعوق
استمتاعنا بالحياة، والسير وفق إيقاع العصر. مشكلة الإنسان، أي إنسان، في
نظر الحمد أنه "يقدس ماهو موجود من أجله (أي الإنسان) ليصبح هو موجودا من
أجله (الشيء) فيخسر الكثير".
هذه الفقرة الصغيرة ليست سوى اختصار لمسيرة قرنين من الحداثة الأوروبية ،
انتهت
بنزع القداسة عن كل شيء، وإباحة كل شيء، وتقديس الإنسان بنزعاته وميوله
ورغباته.
تسربت هذه الأفكار إلى العالم العربي على يد حفنة من سدنة الثقافة
الغربية أمثال سلامة موسى، وشارلي شميل قبل حوالي قرن من الزمان، وماتت
أفكارهم معهم. وبهذا فإن الحمد يغشنا من خلال محاولة ترويجه لبضاعة مزجاة
عفا عليها الزمن.
من هذا المنطلق (القديم) والإطار النظري(البايت) يناقش الكاتب ما يعده
أزمة (أو أزمات) اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تعصف بالسعودية. من
الناحية الاجتماعية يعدنا الكاتب نغماً نشازاً في عالم يعزف سيمفونية
واحدة. نحن السعوديين "المجتمع الوحيد في العالم الذي لا يتقبل ويمنع
ممارسات فردية بسيطة لم تعد تشغل أي مجتمع آخر في العالم". ولا يدعنا
الحمد نخمن طويلا حول طبيعة هذه الممارسات، فيخبرنا أن المقصود هو وضع
المرأة في مجتمعنا، وتكبيلها بقيود صنعتها ثقافتنا وأعرافنا. ويدعوالحمد
صراحة إلى التخلص من هذه (القيود) التي لم تعد صالحة لزمن العولمة.أما
لماذا نفعل ذلك،
فيقول الحمد
إن "الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان لم يفرق بين رجل وامرأة،
بل تحدث عن الإنسان بوصفه رجلا وامرأة". ولا سبيل لنا إلا الأخذ بما جاء
في الإعلان بتمامه،
فلا يجوز أن
نؤمن ببعض الإعلان ونكفر ببعض.
ويسوّغ الحمد هذا السلوك بقوله إن"الحاجة العملية في عصر مثل عصرنا تدعو
إلى محاولة الالتقاء مع العالم لا مخاصمته".
مشكلة تركي
الحمد وزملائه
أصحاب التيار
الدنيوي/العلماني المتطرف
أن إطارهم
المرجعي هو(العالم)، ويعنون بذلك العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات
المتحدة
الأمريكية.أما نحن، فلسنا سوى أتباع يجب أن نقف مشدوهين، فاغري الأفواه
أمام هذا(العالم) ونفعل ما يريد لنا أن نفعل، ونقول ما يريد لنا أن نقول،
وننقاد له طائعين، ونحذو حذوه مختارين، فمن غير المعقول أن نخاصم (العالم).
والاستخدام الأيديولوجي لكلمة (العالم)هنا لا يختلف عن استخدام عبارات
مرادفة (كالشرعية الدولية) أو(المجتمع الدولي) فكلها
عبارات عنصرية مقنّعة، تسقطنا نحن العرب والمسلمين من حسابها، وتجسّد فقط
هيمنة الحضارة المسيحية اليهودية التي تحتكر وحدها الحقيقة المطلقة،
وتجعل
قيمها ومصالحها معيارا كونيا لتحديد الشرعية،
واعتبار أمة من الأمم جزءا من(العالم).
يقول الحمد إنه " في عالم متعولم مثل عالمنا المعاصر لم يعد بالإمكان
تجاهل المرأة بصفتها إنسانا له حقوقه المعترف بها عالميا قبل أن تكون
المسألة مقيدة بقيود ثقافة معينة". والحمد
يدعو هنا إلى
استبدال مرجعية حقوق الإنسان، ومواثيق الأمم المتحدة بمرجعية الدين
الإسلامي،
ومنظومة
قيمنا المستمدة من الدين
والتي أسماها
الحمد "
ثقافة معينة
". ليت شعري
لماذا لم يكن
تركي الحمد شجاعاً فيدعونا إلى خلع الإسلام جملة
(ويا دار ما دخلك شر)!
ويعرّج الحمد في مقاله على ثقافتنا المأزومة، في نظره، ويرى أن هناك ربطا
قائما بين (الوهابية) و(الإرهاب). ولا يستبعد وجود علاقة بينهما فعلاً،
فذلك مما" قد تختلف فيه الآراء" على حد وصفه (ربما لوجود علاقة أبجدية
بين الإرهاب وابن عبد الوهاب).
ويضعنا الحمد
أمام خيارين لا ثالث لهما:إما الإنسان والكيان، وإما المذهب
والأيديولوجيا،
ولا سبيل للجمع بينهما.
لم يقل لنا
الحمد لماذا تتمسك دول مثل الهند واليابان والصين بقيمها وأيديولوجياتها،
ولماذا لم يحدث فيها تعارض بين الإنسان والكيان من جهة، والثقافة
والتقاليد من جهة أخرى.التعارض
الذي يقيمه الحمد
تعارض موهوم
وغير حقيقي، بل هو فرية افتراها
وأعانه عليها قوم آخرون. وبلغ استبداد الحمد حداً صادر فيه حرية اختيارنا
بين ماعده نقيضين(الأيديولوجيا والكيان)
فاختار هو
بالإنابة عنا
مرددا بشكل فج وركيك أيضا "الكيان هو المهم، الإنسان هو الأهم". هذا
الخيار البائس الذي يحشرنا إليه الحمد، يهدم أساس الدولة التي يزعم أنه
يدافع عنها(هو بالمناسبة يقر بذلك، لكنه يصر على وجوب المضي في الهدم على
أية حال). يقول إن الوهابية (أو بكلمة أدق الإسلام) "تشكل في النهاية
أيديولوجيا الدولة وأساس شرعيتها ".
لكنه يطالب
بعد ذلك مباشرة بالتخلي عنها، من أجل مصلحة الكيان، وتناغم إيقاعه مع
السيمفونية العالمية.
إن أي
صاحب منزل يقوم بنسف قواعد منزله بحجة المحافظة عليه لهو جدير بأن يساق
إلى المصحة العقلية.
ودعوة الحمد إلى تقويض شرعية الكيان والمجتمع تحمل تفسيرين يتيمين(لا
نلزمه بأحدهما كما فعل معنا تعسفاً)..
إما الخبل.. وإما الخيانة.
واقرؤوا أول المقال.
د. أحمد بن راشد بن سعيّد
writemee@hotmail.com
|