العرب وطرائق الترجمة
وأشعل تشجيع جمال الدين الأفغاني وغيره حماسة البستاني فوق اشتعالها, فاندفع إلى ترجمة الإلياذة التي ملكت عليه لبّه وجنانه, وأكمل الترجمة, وأضاف إليها دراسته الخالدة التي لم يفته فيها استقصاء طرائق الترجمة عند العرب, واختياره طريقة حنين بن إسحق والجوهرة وغيرهما, وهو أن يأتي بالجملة اليونانية فيحصل معناها في ذهنه, ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها, سواء ساوت الألفاظ أو خالفتها. وقد حسم البستاني أمره في تحري الصدق في النقل مع مراعاة قوام اللغة, فلا يزيد شيئا على المعنى ولا ينقص منه ولا يقدم أو يؤخّر إلا ما اقتضاه تركيب اللغة, فكان يعمد إلى الجملة سواء تناول بيتا أو بيتين أو أكثر أو أقل ويسبكها بقالب عربي, يجلو رواءه على قدر استطاعته. ولكن لما كان الشعر العربي يختلف طولا وقصرا باختلاف أوزانه, كان لابد من حصول التفاوت في النسبة بين عدد أبيات الأصل وعددها في النقل, وليس في اللغة اليونانية شطر وبيت كالعربية فكل شطر منها بيت تام, ثم إنه كثيرا ما يحصل الترابط فيها بين بيتين وأكثر بما لا يجوز في منظومات - الشعر في اللغة العربية. ولهذا لم يكن في الإمكان نقل البيت اليوناني بيتا أو شطر عربيّا فيما يقول البستاني, وكانت النتيجة أن جاءت الأبيات العربية في ترجمة البستاني بين العشرة والأحد عشر ألف بيت نقلا عن أصل عدده بين الستة عشر والسبعة عشر ألف بيت.
ويمضي البستاني في تعداد الصعوبات التي واجهها في الحفاظ على الأصل, وتعمّده تجنب الوحشي والحوشي من الكلام, والصعوبات التي لاقاها في ترجمة الألفاظ التي لا مرادف لها في اللغة العربية, فاضطر إلى انتقاء ألفاظ يمكن إطلاقها على المعنى المراد ونبّه عليها وإلى نهج أسلوب في التركيب الوصفي لا يختل معه نظام اللغة العربية. ومن ذلك ما يتصل بأسماء الآلهة التي وضع لها اليونان أسماء بعددها, فلم يذكرها البستاني كما هي, فحيثما توقف على اسم آلهة عاد إلى معنى الاسم اليوناني وعرّبه بما يرادف ذلك المعنى أو قاربه, فأطلق على ربات الغناء ومنشدات الآلهة - مثلا (القيان). والقينة في اللغة العربية الجارية المغنية. وأما الموصوفات العلوية الموضوعة لمعنى معيّن, فقد أطلق عليها أسماءها التي تنطبق عليها في العربية, فأطلق على آلهة الفتنة (فتنة) وآلهة الشقاق (شقّاق) وهلم جرا.
وقد لاحظ البستاني أن أسلوب الإلياذة يتضمن تراكيب وصفية تلازم الكثير من الأعلام, وقد يكثر تكرارها على نحو لم يره سائغا في اللغة العربية, وذلك مثل وصف أخيل بخفة القدم ووصف هكطور بهز الخوذة ونسطور بأنه راعي الشعب وزفس (زيوس) بأنه أبو الآلهة والبشر.
وقد خفف البستاني في التكرار في مثل هذه الحالات, وانتقى ألفاظًا حسبها خفيفة على المسمع العربي, حسب ذوقه وذوق عصره, فقال على أخيل (طيار الخطى) وهكطور: (هياج التريكة) وما أشبه, ولم يكن بالأمر السهل عليه تعريب الأعلام, خصوصا أنها كانت أسماء شخصيات غير مألوفة, فلجأ إلى التعريب على طرائق العرب القديمة, فقال: زفس (زيوس) وهرمس وحاول قدر الإمكان الحفاظ على الأصل اليوناني مع مراعاة صحة اللفظ العربي, وتابع العرب في الأسماء الشائعة, فأبقاها على حالها, فلم يقل ألكسندر أو ألكسندروس على ما يقتضيه اللفظ اليوناني, وإنما الإسكندر لإجماع العرب على كتابته بهذا الهجاء. وفعل ذلك في الأسماء التي زاد عليها كتاب الإفرنج والعرب على كتابته بهذا الهجاء. وفعل ذلك في الأسماء التي زاد عليها كتاب الإفرنج والعرب حرف هاء في أوائل الأسماء المبتدئة بحرف علة ثقيل, فكتب: هوميروس وهيرا وهيبا كما قالوا هيرودس وهيرودوتس وهرقل وهيلانة, مع أنه لو روعي رسم الحروف اليونانية لما وجدت الهاء, ووجب أن يقال إيرودس وإيرودوتس وإرقل وإيلانة, على أن العرب لم يفعلوا ذلك في كل الأحوال, فقالوا أوميروس وأسيودس بدل هوميروس وهسيودس في الكتب القديمة.
أوزان الشعر
ويتابع البستاني إبلاغ القارئ بكل تفاصيل تقنيات ترجمته, ذاكرا كيفية الحروف التي لا مقابل لها في اليونانية, والحروف التي لا مقابل لها في العربية, وتنافر التقاء الحروف, ومواقع النبر. ويقف وقفة خاصة عند تقنيات الترجمة نظما, فيدخل في باب النقد الأدبي وأسلوبيات الترجمة وعلومها المقارنة في الوقت نفسه, فيحدّثنا عن معاني أوزان الشعر العربي, وكيف أن لكل بحر من بحور الشعر العربي ارتباطات معنوية وعاطفية, وهو تصور لم يعد يقبله النقاد العرب المحدثون ويصل ذلك بحديثه عن الفوارق بين القوافي والأوزان اليونانية والإفرنجية من ناحية والقوافي العربية من ناحية مقابلة. ولا تفوته الإشارة إلى القوافي الضيقة والثقيلة وجوازات الشعر وعيوب القافية. ويختم بالإشارة إلى ضروب النظم (المثنى, المربع, الموشّح, والمستطرد, والمصرّع) في التعريب, غير غافل مشكلات المجاز والتراكيب التي لا سبيل إلى ترجمتها حرفيا. ولا ينسى فعل الحضارة في استهجان المستحسن واستحسان المستهجن في التشبيه والمجاز, ويقوده ذلك إلى مقارنة مسهبة بين اللغة العربية واللغة اليونانية لا أعرف لها نظيرا إلى اليوم.
وسواء اختلفنا مع الرجل في بعض أفكاره النقدية أو اختلفنا معه, وفعلنا الأمر نفسه في بعض تفسيراته وتحليلاته, وسواء اختلف معه علماء اللغة اليونانية اليوم في ترجمة هذه المفردة أو ذلك التركيب, فالمؤكد أن الجهد الخارق الذي قدمه الرجل جعل من مقدمته عملا قائما بذاته. ولذلك نلتفت إليها في تدريسنا النقد العربي الحديث, وننظر إليها بوصفها وثيقة من أهم وثائقه التي تتناول مجالات عدة, وتشمل ما نسمّيه مبادئ النقد, وقواعد التذوق الشعري, وتفاصيل كثيرة في نظرية الشعر وتفاصيل أكثر عن جماليات الأوزان والقوافي, جنبا إلى جنب الدراسات اللغوية والأدبية المقارنة التي تكشف عن معرفة مذهلة باللغات والثقافات والحضارات. والأمر نفسه ينطبق على المقدمة من منظور تاريخ الأدب الذي تعد المقدمة نموذجا من نماذجه الحديثة المبكرة, خصوصا ما ورد فيها عن مراحل الشعر العربي وتطوّره. وقد أشرت من قبل إلى ريادة المقدمة في نظرية الترجمة والحديث عن مناهجها. فضلا عما نقوله اليوم عن الدراسات المقارنة في الترجمة, ومحصلة ذلك كله أن جهد تقديم الإلياذة لا يقل أهمية عن ترجمتها. وأغامر فأقول إن جهد التقديم سوف يبقى كثيرا أكثر من بقاء الترجمة, ذلك لأن الترجمة يمكن أن تصبح مقبولة, رائعة في عصرها, كما يمكن أن تختلف النظرة إليها في عصرنا حسب اختلاف الذوق والنظرة إلى الشعر وإلى الترجمة الشعرية التي تتأثر بالمدرسة الشعرية السائدة في عصرها.
مترجم استثنائي
ولسوء الحظ, لم يكن البستاني ينطوي على موهبة شعرية عالية كتلك التي انطوى عليها البارودي وشوقي, فهبطت به قدرته الشعرية عن أن يحلِّق بلغته في الترجمة إلى المصاف الشعرية الرائعة, فجاءت الترجمة ثقيلة اللغة في المعاني, عسيرة الفهم في التراكيب وصيغ التعريب التي اجتمعت فيها الغرابة وصعوبة المأتى.
ولذلك فإن ترجمة سليمان البستاني الشعرية تظل عملا استثنائيا عظيما في عصره, مذهلا في ثقافته, لكنه يغدو غير مقبول في عصرنا, إلا على سبيل ذكر الخصائص التي لابد أن تجتمع في المترجم الاستثنائي, وقد كان سليم البستاني مترجما استثنائيا بلا شك, وصل إلى آفاق لم يصل إليها أحد في عصره, لكنه كان شاعرا غير متميز, يخلو شعره من وهج العبقرية المتقّد, فجاءت ترجمته الشعرية ثقيلة. وإذا كنا نحتفل في هذا العام بمرور مائة عام على صدور هذه الترجمة, تقديرا لقيمة البستاني وإنجازه, فإننا نحتفي بالصبر والجهد والحماسة والتفاني في العمل والتمكن من المعارف التي تؤدي إلى التميز, كما نحتفل في الوقت نفسه بسليمان البستاني الناقد والمؤرخ ودارس الآداب المقارنة وأستاذ نظرية الترجمة, وذلك في مقدمته التي أثق في أنها ستبقى طويلا, وستظل مقروءة أكثر بكثير من نظمه الشعري الصعب في ترجمة الإلياذة.