مائة عام على تعريب إلياذة هوميروس لا يكتمل تاريخ أي ثقافة إلا بتاريخ الترجمة فيها. ولا يعلو قدر أي ثقافة إلا بعلو قدر الترجمة فيها كمّا وكيفًا. وقد تعلّمنا من الأمم المتقدمة أن الترجمة أصل من أصول التقدم. تتسابق الأمم الناطقة باللغات الأوربية في مدى الترجمة, بل يصل الأمر إلى درجة أن تصدر الترجمة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية لكتاب من الكتب التي تصدر في أقطار هذه اللغات مع صدور الكتاب نفسه في لغته الأصلية. وقد حرصت الأمم الآسيوية المتقدمة, وعلى رأسها اليابان, على أن تترجم إلى لغتها كل ما تصدره الأقطار الأوربية - وغير الأوربية - من منجزات التقدم والحضارة في كل أنواع المعرفة والإبداعات المختلفة. وقد أدهشني - وأنا أتابع الكتابات المترجمة للفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا - أن اللغة اليابانية من أكثر لغات العالم احتفاء بكتاب هذا الفيلسوف ما بعد الحداثي, وهو أمر دفعني إلى الشعور بالخجل, نتيجة علمي أن مصر التي أنتسب إليها بدأت نهضتها قبل اليابان, واستهلت حركة ترجمة قوية قبل اليابان, ولكننا تعثّرنا مع غيرنا من الأقطار العربية بينما مضت اليابان في طريق التقدم المنشود إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه, ولاتزال رحلتها في أفق التقدم الذي لا نهاية له أو حدّ. ويدفعني ذلك إلى تذكّر ما شاهدته من احتفالات رسمية وشعبية في السويد, حين كنت أعمل أستاذًا زائرًا في جامعة ستوكهولم, وذلك بمناسبة انتهاء مترجمة سويدية شهيرة من ترجمة مجلدات رواية الكاتب الفرنسي مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود) إلى اللغة السويدية, وقد رأت الأوساط الثقافية السويدية في اكتمال الترجمة ونشرها حدثا ثقافيا ضخما يستحق الاحتفاء والإشادة والتقدير, فأقامت المنتديات الفكرية, وتولت تكريم المترجمة بأكثر من وسيلة, ووضعت مكتبات السويد أغلفة مجلدات الرواية مكبّرة على زجاج نوافذ العرض فيها, وظلت الترجمة حديث السويد كلها لفترة غير قصيرة, وكنت أشاهد ذلك وأسأل نفسي عن اليوم الذي تقوم فيه الأوساط الثقافية بتكريم مَن ترجموا الروائع العالمية من الأعمال الإبداعية, أو ترجموا أمهات الكتب التي تأسس بها ميراث الإنسانية العلمي والفكري. وخطر على بالي اسم حسن عثمان المترجم المصري الذي عمل حوالي عشرين عاما في ترجمة (الكوميديا الإلهية) لدانتي عن اللغة الإيطالية القديمة, كما خطر على بالي سليمان البستاني الذي قضى ما يقرب من خمسة عشر عاما في ترجمة إلياذة هوميروس, أو تعريبها نظما. هوميروس منظوما ولا يعرف الكثيرون أن سليمان البستاني (1856-1925) أصدر ترجمة الإلياذة كاملة, في مجلدين ضخمين في ما يزيد على ألف ومائتي صفحة من القطع الكبير, سنة 1904 في القاهرة. وكانت مكتبة المعارف ومطبعتها الكائنة بأول شارع الفجالة هي صاحبة الفضل في الإصدار الاستثنائي الذي أعلنت عنه على النحو التالي: (إلياذة هوميروس معربة نظما, وعليها شرح تاريخي أدبي, وهي مصدّرة بمقدمة في هوميروس وشعره وآداب اليونان والعرب ومذيلة بمعجم عام وفهارس بقلم العلامة المفضال سليمان أفندي البستاني. وتحتوي على 1260 صفحة مطبوعة طبعا متقنا على ورق جميل). وكان سعر الجزأين مجلدين جنيها مصريا وثمانية قروش, بينما كان سعر النسخة المغلفة بغلاف ورق ملون جنيها مصريا لا غير, ويضاف إلى ذلك ثمانية مليمات أجرة البريد (البوسطة). وقد احتفت الحياة الثقافية العربية والمصرية بصدور الترجمة احتفاء لافتا, لم يحدث من قبل مع ترجمة كتاب. وهو احتفال جعلني أؤمن أننا سبقنا السويد والأقطار الأوربية في الاحتفاء بالترجمة, سواء في تاريخنا العربي الذي يرجع حتى إلى ما قبل زمن المأمون ومدرسة الحكمة, أو بدايات تاريخنا الحديث حين قام محمد علي بتأسيس مدرسة الألسن, وتتابع أجيال المترجمين وأعمال الترجمة على امتداد الأقطار العربية التي سبقت إلى النهضة, وذلك في السياق الذي وصل إلى ذروة من ذراه الدالة سنة 1904 حين صدرت ترجمة البستاني لإلياذة هوميروس فاحتفت بها الحياة الثقافية العربية احتفاء استثنائيا يليق بها, وأقول استثنائيا لأن مثل هذا الاحتفال لم يتكرر حسب معلوماتي. ولاأزال أذكر مشاعر الدهشة والإعجاب التي انتابتني عندما قرأت ترجمة البستاني للمرة الأولى منذ زمن بعيد, ولاتزال هذه المشاعر تعاودني كلما عدت إلى هذه الترجمة وتوقفت عند المقدمة الطويلة, أو الدراسة الضافية التي يصل عدد صفحاتها إلى مائتي صفحة محتشدة بكل ما ينطق بقيمة الترجمة وفضل المترجم واتساع معارفه. ولا عجب أن يبذل المترجم من سنوات عمره هذا العدد الكبير من الأعوام التي قضاها باحثا ومنقبا ومتعلما في الوقت نفسه. وقد تولى بنفسه رواية حكاية التعريب و(حكاية المعرّب) فأخبر قرّاءه أنه كان كلما قرأ منظومة من المنظومات القديمة والحديثة ازداد إعجابه بالإلياذة, لأنها وإن كانت أقدمهن عهدا فهي لاتزال أحدثهن رونقا وأبهرهن رواء وأوسعهن مجالا وأبلغهن جميعا فيما يقول, خصوصا بعد أن اتسعت خبراته ومعارفه, فقد كان يكلف منذ الصغر بمطالعة الشعر القصصي ولاسيما ما تعلق منه بالخياليات وعبادات الأقدمين, وتقلب ما بين أنواع الشعر القصصي إلى أن استقر إعجابه على الإلياذة التي نسج صفوة الشعراء على منوالها فلم يبلغوا شأوها وعقد عزمه على ترجمتها إلى اللغة العربية نظما, مؤمنا أنه ليس في شعر الإفرنج ولغاتهم ما يوفر للإلياذة أسباب البروز بحلة أجمل مما تهيئه لغتنا, فالشعر اليوناني - فيما يقول - لغته قريبة إلى الفطرة كلغتنا. وليس في شعراء أمة من الأمم من انطبقت معانيهم على معاني الإلياذة بالحكمة والوصف الشعري كالمتقدمين من شعرائنا. وبدأ سليمان البستاني الترجمة في أخريات سنة 1887 بالقاهرة, معتمدا في البداية على ترجمة فرنسية يقارنها بترجمة إنجليزية. وكانت معرفته باليونانية القديمة قاصرة في ذلك الوقت, لا تتجاوز القراءة البسيطة وبعض أصول ومفردات لا تشفي غليلا, فأخذ يبحث عن أستاذ يساعده على إتقان اليونانية القديمة التي ينبغي أن ينقل عنها مباشرة, فاهتدى إلى عالم من الآباء اليسوعيين تلقّى على يديه دروس اللغة لأشهر في الدير, فأتقن أصول اللغة, وقرأ عليه فصولا من الإلياذة التي فسّرها له, وهو مُكبّ على الدرس متفرّغ للاستفادة. وبعد أن اطمأن إلى أنه يستطيع أن يتمم الدرس وحده, وأن يتناول تعريب الإلياذة من أصلها مع الاستعانة بكتب اللغة وتفاسيرها, بدأ التعريب من جديد, وأعاد النظر فيما سبق له ترجمته, فغيّر وبدّل, ونقح وصحح, وظل كذلك إلى أن رحل عن القاهرة سنة 1888, وانتهى به التطواف إلى العراق بعد أن زار الهند وأطراف العجم, فأقام في العراق سنتين, اضطر أثناءها إلى التوقف عن الترجمة. وبعد العراق, سافر البستاني إلى الأستانة, واتخذها مقاما طيبا لسبع سنوات, كان فيها كثير التنقل بين الشرق والغرب, لكن الإلياذة ظلت رفيقه, حيثما توجه اختلس الأوقات ليعود إليها, ويضيف إلى ما ترجم, وكثيرا ما حصل ذلك في رءوس الجبال وعلى متون البواخر وقطارات سكك الحديد, فالترجمة بذلك وليدة أربعة أقطار العالم. وكان كلما استقر في مكان توخى الإفادة من أهله, وبخاصة في الأستانة, حيث هيأ له حسن التوفيق الاتصال ببعض أدباء اليونان عشاق هوميروس وإلياذته مثل استافريدس مترجم السفارة الإنجليزية وكارولينس أحد أساتذة الكلية اليونانية في الأستانة (استانبول) وبعضهم من قرّاء العربية, فكان يشاورهم في بعض ما التبس وأغلق وهم لا يضنّنون بعلمهم وعونهم, وهكذا, ظل حال سليمان البستاني إلى أول صيف 1895 حيث خرج بعائلته إلى مصيف فنار باغجة في ضواحي الأستانة, وظل فيه أربعة أشهر فرغ في نهايتها من عناء التعريب.
المصادر : |
|