أ. ضغوط العمل: المفهوم والمصادر
يتفق عدد كبير من الباحثين في تحديد المقصود بضغوط العمل حيث يشيرون إلى الموقف الذي يكون فيه عدم الملائمة بين الفرد و مهنتة مما يحدث تأثير داخلي يخلق حالة من عدم التوازن النفسي أو الجسمي داخل الفرد حيث أن لخصائص الفرد الشخصية والخصائص الوظيفية دور مهم في إحداث ضغوط العمل و الإحساس بها، ومن ثم تعرف بأنها " تجربة ذاتية تحدث اختلالا نفسيا أو عضويا لدى الفرد وينتج عن عوامل في البيئة الخارجية أو المنظمة التي يعمل بها الفرد أو الفرد نفسه".()
ويرى الدارسون أن المداخل النظرية التي تدرس مصادر الضغوط تنقسم إلى قسمين: الأولى ترى ان المصدر الرئيس للضغوط يكمن في المتطلبات الوظيفية ذاتها وتؤكد على التأثير الضاغط لهذه المتطلبات التنظيمية في استثارة استجابات التحكم والتوجيه من قبل العاملين، والثانية تركز على اشتراك ظروف العمل والعوامل الشخصية الخاصة لكل فرد في إحداث ردود أفعال وقتية أو مزمنة، ومن ثم فان الوظائف تختلف في متطلباتها وما تنتجه من فرص الإنجاز وكذلك يختلف المعلمون في قدراتهم وحاجاتهم، فما يشكل ضغطا لا حد المعلمين قد يكون شكلا من أشكال التحدي المرغوب فيه لدى معلم آخر.()
ويشير نموذج الشخصي ـ البيئي (
Prsonnal-Enviromental ) الذي طوره هارسون وآخرون(
Harrison, et al., 1980 ) الذي يهتم بالتفاعل بين خصائص الفرد وخصائص بيئة العمل في إحداث الضغوط، إلى أن الضغوط تنشأ من عدم التوافق بين الفرد ومهنته. وبذلك تكون الضغوط تجربة ذاتية تحدث اختلالا نفسيا أو عضويا لدى الفرد، وتنتج عن عوامل في المنظمة التي يعمل بها الفرد أو عن عوامل ذاتية لدى الفرد نفسه.()
كما طور جبسون وآخرون(
Gibson, et al., 1994 ) نموذجا يوضح العلاقة بين عوامل ضغوط المهنة المختلفة وآثار هذه الضغوط على العمل وتأثير الصفات الشخصية على هذه العلاقة. ويشتمل النموذج على مصدرين أساسين من المصادر الضاغطة:
أولا: ضغوط تتعلق بطبيعة العمل وبيئته ..ودور العاملين فيها ومن بينها:
أ). ضغوط تتعلق ببيئة العمل المادية: وتشمل عوامل مثل الضوضاء و الحرارة وتلوث الهواء وغيرها.
ب). ضغوط فردية : وتتمثل في صراع الدور وغموضه و العبء الزائد في العمل وطبيعة المهنة، وهذه الضغوط ترتبط بالمهنة.
ج). ضغوط اجتماعية : وتتمثل في ضعف العلاقة مع الزملاء في العمل و المرؤوسين و المدير.
د). ضغوط تنظيمية : وتتمثل في ضعف تصميم الهيكل التنظيمي (مستويات إدارية متعددة أو قليلة في هرم التنظيم) وعدم وجود سياسات محددة.
ثانيا: ضغوط ترتبط بالخصائص الشخصية تتمثل في الصفات الذهنية والعاطفية و الجسمية( نمط الشخصية ومركز التحكم وقدرات وحاجات الفرد) وأيضا الديموغرافية التي تؤثر على تفاعل الفرد مع عوامل ضغوط.()
وقد طور السمادوني() نموذجا للضغوط العملية لمعلم التربية الخاصة يشتمل على المصادر الضاغطة لتلك المهنة والمؤدية للشعور بالإنهاك. إضافة إلى الآثار السلبية المترتبة على تعرض المعلمين لتلك الضغوط عند مزاولتهم لعملهم. وقد حدد تلك المصادر بمصدرين أساسيين هما :-
1.
مصادر مهنية (مؤسسية) ضاغطة وتتمثل في صراع الدور وغموضه وعدم المشاركة في صنع القرار، والأعداد غير الجيد للمعلم الذي لا يلائم طبيعة المهنة، والضغط الناشئ من الطلاب أنفسهم وخصائصهم، والضغوط الناشئة من إدارة المدرسة والنقص في المساندة الاجتماعية سواء من المدير أو الزملاء أو المشرفين.
2.
مصادر فردية (شخصية) تتمثل في عدم الرضا عن العمل وعدم الرضا عن الحياة. إضافة إلى بعض المتغيرات الديموغرافية المتمثلة في السن و المؤهل الدراسي للمعلم و الجنس وسنوات الخبرة.
ب. الدراسات السابقة
تولد طبيعة العمل ضغوطا لها أشكالها المختلفة. وتختلف حدة هذه الضغوط باختلاف طبيعة العمل. وفي دراسته لتحديد العلاقة بين طبيعة العمل والضغوط المتولدة عنه في أكثر من 130 مهنة. وتؤكد الهنداوي إلى أن هناك مهن تولد بطبيعتها مستوى عال من ضغط العمل، في حين أن هناك مهن أخرى تولد بطبيعتها مستويات منخفضة من ضغط العمل.(
) وتشير الدراسات عن أن نوع العمل الذي يقوم به الفرد وما يتضمنه من واجبات ومسؤوليات وأعباء يعتبر من المحددات المهمة لمقدار ونوع الضغط الذي يتعرض له. فقد تبين أن رجال الإدارة أكثر عرضه ـ من المهندسين والعلماء ـ لأشكال مختلفة من ضغوط العمل بسبب زيادة أعباء العمل. كما أن المسؤولية عن الأفراد تعتبر مصدرا قويا للضغط بدرجة أكبر من المسؤولية عن الأشياء والمقتنيات. ومن ثم فإن هذا النوع من ضغوط العمل يتعرض له العاملون في مجالات الشرطة ، والإطفاء، والتمريض، والتدريس، ومراقبة الملاحة الجوية، وكذلك رجال الإدارة.() وتؤكد الدراسة التي قامت بها الهنداوي() حول استراتيجيات التعامل مع ضغوط العمل على انه يختلف إدراك الأفراد لمسببات ضغوط العمل بحسب طبيعتهم، ويختلف إدراكهم لتلك المسببات بحسب أعمارهم. إذ تشير النتائج إلى أنه كلما انخفض عمر العاملين فانهم يشعرون بمستوى من ضغط العمل أكبر مما يشر به العاملون من كبار السن. ويرجع جلمش وآخرون( Gmelch, et al., 1994) مصادر ضغوط العمل عند العاملين في الإدارة التربوية إلى بيئة العمل حيث يمارسون أعمالا إدارية يتعرضون لضغوط العمل في كل من المجالين الإداري و الأكاديمي.() وفي دراسة عسكر وعبدلله
() حول مدى تعرض العاملين لضغوط العمل في بعض المهن الاجتماعية ( التدريس، التمريض،الخدمة الاجتماعية،الخدمة النفسية) وعلاقة ذلك بمتغيرات الخبرة و الجنس و الجنسية و الحالة الاجتماعية. بمعنى آخر حاولت الدراسة التعرف على تأثير الخبرة التي يقضيها الفرد في المهنة. وكذلك جنسيته ونوع جنسه وحالته الاجتماعية يمكن أن تكون ذات تأثير على مدى تعرضه لضغوط العمل في المهن الأربع. أكدت الدراسة بالنسبة لمتغير الخبرة المهنية بأن الفرق الوحيد في التعرض للضغوط بين العاملين ظهر في مهنة التدريس وهو فرق ذو دلالة إحصائية عند مستوى (05). كما تشير النتائج إلى أن فئة المتزوجين هم الأكثر تعرضا للضغوط مقارنة بغير المتزوجين وخاصة في مهنة التمريض و الخدمة الاجتماعية.
من جانب آخر انتهت دراسة راتش وآخرون(
Rasch, et al.,1990 ) إلى وجود فروق إحصائية منشأوها الدور الوظيفي ومهام العمل بين الإداريين وغير الإداريين في أهمية الأسباب المدركة للشعور بضغوط العمل، كما إن إحساس الفرد بان فرص الترقي و التقدم و النمو الوظيفي داخل المنظمة التي ينتمي لها ضعيفة أو تحكمه معايير أخرى بخلاف كفاءة الأداء تعتبر أحد المصادر الهامة لضغط العمل حيث تتعارض مع طموحات الفرد ومحاولة تأكيد مستقبله المهني.() وقد قام عسكر() بدراسة 244 من العاملين بقطاع المصارف بدولة الإمارات العربية المتحدة. وكان أبرز نتائجها أن كمية العمل و النمو و التقدم المهني ونوعية العمل و الروتينية التي تحكم سير العمل ، وعدم وجود الحرية الكافية للعامل أثناء ممارسته لوظيفته وصراع الدور وغموضه من أهم العوامل المسببة للضغوط لدى هؤلاء العاملين. ولقد أظهرت إحدى الدراسات على عينة من العاملين بإحدى المنظمات أن غموض الدور أو عدم كفاية المعلومات المتعلقة بالوظيفة تمثل مصدرا لضغط العمل.() وفي دراسة للربيعة
() على 58 مرشدا من المرشدين النفسيين الذين يعملون في مستشفيات الصحة النفسية. انتهت إلى أن بعض المتغيرات الديموغرافية المتمثلة في مستوى التعليم و الحالة الاجتماعية، وسنوات الخبرة، وعمر المرشد. وعبء العمل، وغموض الدور، وعدم المشاركة في اتخاذ القرار، جميعها عوامل مهمة في الشعور بالإنهاك النفسي للمرشد. كما يؤكد ادكرتون
( Edgerton, 1977) أن الأدوار و المهام المتعددة و المتناقضة التي يقوم بها المعلم تؤدي إلى التوتر و القلق والضغط.()
هذا وقد قام كابلان (Caplan, 1978) بعمل دراسة لتحديد طبيعة العلاقة بين عبء العمل ومستوى الضغط وقد أظهرت الدراسة وجود علاقة ارتباطيه طردية بين هذين المتغيرين. حيث أن زيادة حجم الأعباء الموكول لفرد ما القيام بها إلى معدل أعلى من المعدل المقبول تتسبب في إحداث مستوى عال من الضغط.() ويؤكد ديوا (
Dua, 1994)() إلى إن مصادر ضغوط العمل عديدة منها أهمية الوظيفية وعبء العمل والتعامل بين الزملاء، وظروف العمل. كما أكدت الدراسة أن هناك علاقة سلبية بين ضغط العمل والعمر حيث أن حديثي العهد بالعمل اكثر شعورا بالإجهاد والضغط. وأن هناك علاقة سلبية بين المستوى الوظيفي والضغط. وأوضح لورتي(
Lortie, 1975 ) في دراسته الاجتماعية عن مهنة التدريس أن السبب الرئيس وراء ضغوط العمل هو العبء الوظيفي الذي بدوره يؤدي إلى عدم وجود الوقت الكافي للتركيز على العمل الأساسي له.() كما يؤكد أدامسون(
Adamson, 1975 ) أن المسؤوليات المتزايدة والعبء الوظيفي أحد الأسباب التي تؤدي إلى ضغوط العمل عند المعلمين في المؤسسات التعليمية.()
ويرى برايد(
McBride, 1983 ) أن مصادر الضغوط متعددة وأهمها كثافة المدرسة والفصول و المسؤوليات الإضافية، وراتب غير كاف، والعلاقة المتعارضة مع الموجه، فكلما زاد حجم المنظمة كلما إنعدمت الروابط الشخصية واتسعت الفجوة بين الإدارة و العاملين وبعضهم البعض، كما تتضاعف مشاكل التنسيق والرقابة ، ويزداد العبء على قنوات الاتصال، وتصعب عملية اتخاذ القرار.() ويؤكد بسطا() في دراسته حول ضغوط العمل لدى معلمي مرحلة التعليم الأساسي مصادرها والانفعالات النفسية والسلبية المصاحبة لها، على مجموعة من معلمي ومعلمات مرحلة التعليم الأساسي بالمرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية بمحافظة القاهرة في العام الدراسي 1987-1988. إن معظم المعلمين يعانون من ضغوط العمل ويتعرضون للانفعالات النفسية السلبية مثل الغضب والقلق وقلة الحيلة، والانزعاج، أو تثبيط العزم. وأهم ثلاثة أبعاد لمصادر ضغوط العمل، كما يدركها المعلمون من عينة البحث، تتمثل في كثافة الفصول وحالة الحجرات في المدرسة، ومشكلات تتعلق بالنمو المهني للمعلم، ومشكلات تتعلق بالتلاميذ. وكشفت النتائج أن درجة إحساس معلمي المرحلة الإعدادية بضغوط العمل تزداد بازدياد عدد الحصص التي يقوم بتدريسها المعلم. كما وجدت الدراسة أن المتخرجين حديثا أو صغار السن من المعلمين اكثر إحساسا بضغوط العمل. في حين أن دراسة عسكر وآخرون() عن الإنهاك النفسي لمعلمي المرحلة الثانوية بدولة الكويت. فقد كشفت عن أن مصادر ضغوط العمل في مهنة التدريس، و التي تؤدي إلى الشعور بالإنهاك النفسي، تشمل سلوك التلاميذ، وعلاقة المعلمين بعضهم ببعض، وعلاقة المعلم بالإدارة، وعلاقة المعلم بالموجه وتقدير المهنة. وقد قام برايس وآخرون(
Brissie, et al., 1988 )
() بدراسة تنبؤية للتعرف على العوامل الشخصية و البيئية التي تسهم في إحساس المعلم بالإنهاك النفسي و التي أجريت على (1213) معلما بالمدارس الابتدائية. وقد توصل الباحثون إلى أن العوامل الضاغطة الممارسات الإدارية العقيمة داخل المدرسة، وعدم المشاركة في اتخاذ القرار، ونقص المساندة الاجتماعية من المدير و الزملاء و الأصدقاء و الأسرة و الطلاب أنفسهم و أولياء أمورهم، وكذلك العوامل الشخصية المتمثلة في نقص الكفاءة الذاتية للمعلم ونقص الدعم الذاتي، وسنوات الخبرة التدريسية جميعها تسهم في إحساس بالإنهاك النفسي.
وتشير دراسة ابكوتش وآخرين (
Apkkoch, et al., 1982 )() إلى فروق بين الأفراد في مستوى الشعور بضغوط العمل تبعا لعمر و خبرة و المستوى الوظيفي لكل فرد. ويؤكد عسكر وآخرون() أن أكبر الفئات تعرضا للاحتراق النفسي بسبب ضغوط العمل هم المعلمون الكويتيون خاصة من ذوي سنوات الخبرة ما بين 5-9 سنوات. وقد توصلت الدراسة التي قام بها العبد القادر والمير إلى أن صراع الدور وغموض الدور و الدخل الشهري وسنوات الخبرة تكون مصادر ضاغطة لهؤلاء العاملين.()
والخلاصة أن ظاهرة ضغوط العمل حظيت باهتمام العديد من الباحثين في مجالات مختلفة. غير أن الملاحظ أن اهتمامات هؤلاء الباحثين انصب على متغيرات دون أخرى. إذ أن منهم من ركز على تأثير المتغيرات الوظيفية، بينما تركز اهتمام آخرين على المتغيرات الديموغرافية. ولم تظهر دراسة معينة تؤكد على أن متغيرات بعينها أقوى في التأثير دون أخرى. سواء كانت ديموغرافية أو وظيفية. وان كانت هنالك الدراسات التي قد حاولت التعرف على التباين في مستوى ضغوط العمل للعاملين وفقا للمتغيرات الديموغرافية أو الوظيفية إلا أنها لم تحاول تحديد أقوى أو أكثر المتغيرات (الديموغرافية أو الوظيفية ) تأثيرا على ضغوط العمل؟.وبعبارة أخرى أن تلك الدراسات لم تحدد أي المتغيرات أكثر تأثيرا على مستوى ضغوط العمل، هل هي المتغيرات الوظيفية أم المتغيرات الديموغرافية؟. لذا كانت الدراسة الحالية.
(13) وفية أحمد الهنداوي، "استراتيجيات التعامل مع ضغوط العمل،" الإداري، ع 58، (1994)، 101.
(28) لورنس بسطا، "ضغوط العمل لدى معلمي مرحلة التعليم الأساسي مصادرها والانفعالات النفسية السلبية المصاحبة لها،" دراسات تربوية، ع7، (1988)، 39-85.