إستراتيجيات إصلاح التعليم ومكافحة الفساد ([1])
مقدمة:
من المسلم به أنه لا يمكن فصل عملية مكافحة أوجه الفساد في قطاع التعليم عن عملية إصلاح شاملة للمنظومة التعليمية، وهى العملية التي يجب أن تستهدف تحسين جودة التعليم من خلال الاهتمام بمدخلات العملية التعليمية المتمثلة في الطالب والأستاذ والموارد المتاحة والمكتبات والأجهزة الإدارية الداعمة...الخ. والذي يجب أن يرتبط بتغيير فلسفة التعليم وتحوله من التعليم السلبي الذي يعتمد على التلقين والحفظ والتذكر إلى التعليم الايجابي الذي يعتمد على التفاعل بين الطالب والأستاذ، هذا بالإضافة إلى ضرورة النظر إلى حالة التعليم الجامعي ومحاولة إصلاح التعليم فيها، وأن يأخذ بعين الاعتبار في هذا الإصلاح أوضاع الآليات المؤسسية الموجودة بالجامعة والتي يجب التركيز عليها مثل جماعات النشاط المدرسي والاتحادات الطلابية والأسر والجمعيات العلمية والمنتديات الفكرية. هذا بالإضافة إلى ضرورة تطبيق الأساليب التي تعتمد عليها النظم التعليمية المتقدمة مثل المشروعات البحثية والحالات العملية والجوانب التطبيقية، والعمل الجماعي وفرق العمل بين الطلاب وغيرها من الأساليب التي تشجع على الإبداع والابتكار والتخيل لدى الطالب. كما يقتضي ذلك الاهتمام بمخرجات العملية التعليمية ذاتها مثل رعاية الطلاب المتفوقين ودعمهم وتسهيل طريق استكمال دراستهم، وربما تنمية مسارات جديدة لرعاية المتميزين منهم.
إن مثل هذه الرؤية في تحقيق إصلاح حقيقي للتعليم تشترط تغيير نمط إدارة النظام التعليمي والقوانين واللوائح المنظمة له، وكذلك أنماط تمويله، باتجاه التحول عن المركزية الشديدة والمفرطة والتعقيدات واللوائح البيروقراطية، وإعمال مبادئ الشفافية والمحاسبة ومعايير الجودة. مع العلم إن هذا التوجه الإصلاحي لا يمكن أن يتم بدون مشاركة حقيقية من المجتمع ومؤسساته، وتفعيل دور كل الأطراف المجتمعية مثل الشركات والمؤسسات التي توظف خريجي التعليم، ومنظمات المجتمع المدني مثل النقابات والجمعيات الأهلية والمهنية وغيرها من المؤسسات ذات العلاقة بقطاع التعليم، بحيث تعمل على ممارسة أدوار رقابية للحد من الظواهر السلبية في هذا القطاع الحيوي، حيث إن هذه الأدوار بالإضافة إلى ما يمكن أن تسهم به في إصلاح التعليم فإنه يمكنها أن تقف بالمرصاد لأي ممارسات فساد في المؤسسات التعليمية.
إن هذه الحزمة من الإصلاحات هي الكفيلة في حالة تطبيقها بمحاصرة جيوب وممارسات الفساد بكافة أشكاله ومستوياته، وهو ما يعنى ضرورة إعادة النظر من الآن في العديد من الظواهر السلبية التي تجعل العملية التعليمية تبدو وكأنها تجارية بحتة. وتتضمن كذلك ضرورة تطبيق القوانين واللوائح بطريقة حاسمة بين الأطراف القائمة على العملية التعليمية حتى لا تتاح الفرص أمام محاولات استخدام البعض لنفوذه للتربح أو لتحقيق مكاسب ومصالح مادية من وراء العملية التعليمية. ويسهم بشكل مباشر في إنجاح هذا التوجه تحسين الأوضاع المادية للقائمين على العملية التعليمية سواء في المدارس أو الجامعات، بما يضمن لهم حدًّا أدنى للمعيشة الكريمة التي تمكنهم من العطاء والتفاني في العمل والإخلاص فيه، ومواجهة الضغوط التي قد تدفع بعضهم للفساد أو حتى الصمت عن بعض ممارسته. وهو ما يعني خلق المناخ الداعم لعملية إعادة الاعتبار للقانون، وتطبيقه بحزم على الجميع دون استثناء. وبذلك يمكن أن تسترد قوانين ولوائح المؤسسات التعليمية هيبتها في كافة جوانب العملية التعليمية، بما يفتح الطريق أمام استعادة منظومة القيم والأخلاقيات التي أصبحت تعاني مؤسساتنا التعليمية من غيابها. وربما يقتضى الأمر هنا ضرورة تدريس بعض المقررات الخاصة بأخلاقيات المهنة، وأخلاقيات الموظف العام، وأخلاقيات الأعمال والإدارة، والقيادة الأخلاقية، وغيرها كجزء من البرنامج التعليمي.
الإصلاح والتطوير المؤسسي ومحاربة الفساد:
إن هذا التطور المؤسسي الشامل والمتكامل والبطيء، والذي يسعى لاستعادة المؤسسة التعليمية لنظمها ودورها وأخلاقياتها، هو ما يمكن أن ينطلق بها نحو الإصلاح ومعالجه الخلل القائم ، وهو ما يجب أن يواكب إتباع استراتيجيات لإصلاح عملية التعليم ذاتها والتعامل مع مجمل القضايا والإشكاليات التي سبق الإشارة إليها.
ولذلك يجب اعتبار الحرب ضد الفساد في دائرة التعليم أولوية قصوى، لأنها لا تؤثر فقط على حجم الخدمات التعليمية وجودتها وكفاءتها، وبالتالي نتائجها، لكنها تؤثر أيضًا على العدالة في حصول الجميع على خدمة تعليمية متميزة تستعيد ثقة الجمهور في نظم التعليم، بل ومستقبل البلاد على المدى المتوسط والطويل. بالإضافة إلى تقليل عبء الفساد المالي الذي يستقطع من المواطن في هيئة رشاوى أو تكلفة غير شرعية على المدى القصير.
ويستلزم ذلك وضع حزمة من الإصلاحات في مواجهة ممارسات الفساد والتي يمكن أن تفتح الطريق أمام بناء نظام تعليمي يؤسس لبنية اقتصادية قائمة على المعرفة في القرن الحادي والعشرين. وخاصةً أنه قد أصبح من الواضح أن مصر، مثلها مثل الدول النامية الأخرى، عليها أن تعيد توجيه نظام التعليم والتدريب بها ليصبح أكثر ملاءمة لتلبية الاحتياجات التي تفرضها التحديات المستقبلية، على أن تتصف هذه العملية بالاستمرارية؛ فالسياسات الماضية أو الحالية، مهما حققت أو تحقق من نجاح، ليست بالضرورة أفضل السياسات لمواجهة التحديات الجديدة، والتي تبزغ إلى حيز الوجود بسرعة فائقة. كما أن دولاً متطورة مثل كوريا تقوم الآن بإعادة النظر في نظم التعليم والتدريب لديها لتتمكن من مواجهة هذه التحديات.
إن هذا التطور المؤسسي الشامل والمتكامل هو ما يمكن أن يساعد المؤسسة التعليمية للانطلاق نحو الإصلاح ومعالجة الخلل القائم، وهو ما يستلزم إتباع استراتيجيات طويلة الأمد تعمل بالتوازي والتكامل على أكثر من محور.
ضرورة إنشاء وتأسيس مراكز التميز:
تتطلب عملية الإصلاح المتكامل كوادر من أفراد موهوبين وعلى درجة عالية من التكوين والإعداد لقيادة الإصلاح المؤسسي الضروري، على اعتبار أن هذا التوجه أصبح عنصرًا مهمًّا وفعّالاً في بناء اقتصاد المعرفة في القرن الحادي والعشرين، والذي يتطلب خلق هذه الكوادر وتدريبها تدريبًا متميزًا بدءًا من مرحلة التعليم الأساسي وحتى المرحلة الجامعية. كما يتطلب أيضًا إمكانية التواصل مع مراكز متنوعة للتميز وحتى تتمكن هذه الكوادر من مواصلة البحث والتطوير اللازمين لتغيير حال الصناعة والزراعة في مصر حتى تتمكن من المنافسة في مجالات اقتصادية جديدة وسريعة النمو.
ويتطلب تحقيق ذلك تنفيذ إصلاحات كبيرة وجذرية في نظام التعليم والتدريب، مع ملاحظة الاستمرار في تطوير الأداء لنظام التعليم الحالي مما يستوجب ضرورة التركيز على التعليم الأساسي والوظيفة الاجتماعية للمدارس، بالإضافة إلى الاتجاه الجديد نحو التركيز على أهمية العلوم والتكنولوجيا.
ويمكن لتحقيق ذلك البدء بعدد صغير من المدارس التجريبية التي تدار بحسم ونظام في ظل مناخ إداري مختلف، حيث يمكن لهذه المدارس أن تهيئ الطلاب للالتحاق بمراكز التميز على مستوى التعليم العالي، والتي يمكن فيها إجراء البحوث ومشروعات التطوير المطلوبة لتحقيق التغيير الاقتصادي في مصر.
ومع تبني هذا التوجه والتوسع التدريجي والمخطط، فإنه من المؤكد سوف يسهم على المدى الطويل في تحويل نظام التعليم والتدريب إلى نظام يضم بداخله أنساقًا متنوعة، ويستطيع التعامل بصورة أكثر سهولة مع القطاع الخاص (أصحاب الأعمال). ويصبح الاهتمام بالقدرات أكثر من الاهتمام بالشهادات، على اعتبار أن من أهم مؤشرات الإصلاح على المدى الطويل ضرورة فك الربط التلقائي الحالي بين الشهادة والوظيفة.
ويمكن أن يتم تنفيذ هذا الاقتراح على مرحلتين أساسيتين من خلال إجراءات يمكن تنفيذها بخصوص بناء القدرات البشرية التي تحتاجها مصر في العقدين القادمين؛ وذلك لأن اتخاذ خطوات واسعة المدى قد يؤدي إلى الفشل، حيث إن اللامبالاة متفشية في جوانب كثيرة من نظام التعليم الحالي. كذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار عدم الاستهانة بالمصالح الشخصية لبعض العناصر المؤثرة في نظام التعليم مثل المدرسين الذين يعطون دروسًا خصوصية. ولذلك يصبح من الأفضل التركيز على شريحة ضيقة في داخل نظام التعليم والتدريب الحالي. وخاصةً أن تأسيس التميز في جوهر نظام التعليم الحالي المتدني لا يمكن أن ينظر إليه على أنه بديل للتغيير الجذري للنظام والذي يعتبر أمرًا ضروريًًّا، وخاصةً أن الرؤية المقترحة للإصلاح يجب أن تعتمد على تقسيم العمل إلى مراحل.
كذلك تعتمد الرؤية الخاصة بالإصلاح على وجود نظام تدريب يحتوي على أنواع متعددة من المؤسسات، تقدم أنواعًا مختلفة من التدريب يسمح فيها بالتغيير المستمر والتنويع الدائم في الخدمة التي تقدمها هذه المؤسسات. وهذا بالضبط هو المطلوب في زمن أصبح فيه التعليم المستمر مدى الحياة ضرورة، لا مجرد شعار، على أن تكون الركيزة الأساسية في نظام التعليم والتدريب معتمدة على ما تقدمه الدولة من تعليم وتدريب تحت رعايتها المالية حتى المرحلة الثانوية، مع السماح فقط لأجزاء من هذا النظام لتحقيق الاستقلال المؤسسي حتى تصبح مراكز حقيقية للتميز، مثلها مثل أفضل مراكز التميز في العالم، وبحيث لا تتعرض للقيود الإدارية التي يتعرض لها بقية النظام من اعتبارات مثل الأقدمية أو تحديد أعداد الطلاب بها، لأن تلك القيود قد ساعدت على تدمير نظام التعليم العالي المصري.
وتعود أهمية مراكز التميز إلى أنها في العادة تسهم في تقدم الدراسات في مجال العلوم والطب والهندسة، حيث يتم فيها إجراء البحوث والتدريب المتقدم والذي يتم غالبًا من خلال التعاون مع المراكز الأخرى أو المؤسسات أو الأفراد. وتعتبر مراكز التميز هي البوابة التي يحدث من خلالها التجديد والابتكار، وبالتالي لا يمكن التقليل من أهميتها، والاعتماد عليها في تنمية القدرات في العلوم والتكنولوجيا على مستوى الدولة، خاصةً وإنها يمكن أن تعمل أيضًا على مستوى محلي أو إقليمي أو دولي بالتعاون مع مؤسسات علمية متقدمة. ومن الطبيعي أنه ليس من الضروري إنشاء هذه المراكز من الصفر حيث يمكن تحقيق الإصلاحات أو التعديلات المطلوبة من خلال أفضل البرامج الواعدة والموجودة في مجال البحوث والتنمية الحالي.
ومن أهم النقاط التي يجب التركيز عليها لتحقيق امتياز وتميز هذه المراكز إعادة توزيع الموارد بناء على تقويم حقيقي ودقيق لقيمة البحوث، وذلك من خلال إقرار برامج بحوث جديدة أو تقويم للبرامج الحالية. كذلك وبسبب المستوى العلمي المتواضع والموجود في معظم البلاد النامية، فإن عملية التقويم يجب أن تضم خبراء من بلاد أخرى، وحتى يمكن لقدرات هذه المراكز أن تنمو في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وأن تصبح نقاط جذب والتقاء للأفراد أو المجموعات المعنية بتعزيز المعرفة في العلوم والتكنولوجيا على المستوى الوطني والإقليمي. ولهذا يجب أن تتمتع هذه المراكز باستقلال مؤسسي ودعم مالي مستمر، وقيادة قادرة لديها المعرفة، وخطة بحثية مركزة تتضمن موضوعات في تخصصات بينية وبحوث تطبيقية، وبحوث أساسية، وآلية حقيقية للتقويم. ويتطلب ذلك خطة للتوظيف والترقية على أساس الكفاءة، وآليات لرعاية وتشجيع الجيل الجديد من الموهوبين للعمل في مجال العلوم والتكنولوجيا. وبالنسبة للمؤسسات التي تتواجد فيها مثل هذه المراكز يجب العمل على دعمها أو إعادة هيكلتها في حالة الضرورة. وفى الحالات التي تستدعي الإصلاح يجب أن تتم التغييرات على جميع المستويات وأن يتم تطبيقها بالطريقة التي يمكن من خلالها تحقيق أفضل استخدام للموارد النادرة بما في ذلك المواهب المحلية.
وبالرغم من أن إصلاح نظام التعليم والتدريب وإنشاء مراكز للتميز مهمة صعبة، إلا أنها تعتبر أمرًا ضروريًّا لتحقيق التغيير المطلوب، ولذلك يجب أن تبذل كل الجهود من أجل تحقيقها، بدون حيدة عن الأهداف المطلوب تحقيقها، أو تنازل عن أي من عناصر الإصلاح الأساسية في مجمل المنظومة التعليمية، مع العلم بأن هناك العديد من النماذج الناجحة في دول نامية يمكن الاسترشاد بها، مثل معاهد التكنولوجيا والعلوم في الهند. وهي معاهد على مستوى عالٍ جدًّا، وتعد خير مثال على إمكانية تأسيس مؤسسات مماثلة وإمكانية ازدهارها في دولة ذات كثافة سكانية عالية وفقير،ة ويتعرض نظام التعليم فيها لضغوط اجتماعية شديدة. إلا أنها تمكنت من التواجد كمراكز تعليمية متميزة رغم ظاهرة الزيادة الكبيرة في عدد الطلاب المسجلين في المدارس العادية، وفي مجتمع تسيطر عليه النظرة السياسية للتعليم. كما تمثل الجامعة المكسيكية القومية نموذجًا آخر حيث تتم في إطارها كل الجهود البحثية وجهود التطوير، والتي تعتبر قوة دفع حقيقية للربط بين الحكومة والقطاع الصناعي والجامعة. كذلك فإن كلاًّ من كوريا وسنغافورة تعتبران أيضًا أمثلة يمكن النظر إليهما على اعتبار أنه يمكن تنفيذ هذه الرؤية في دولة فقيرة، ومن خلالها يحدث التغيير تدريجيًّا عن طريق التنمية والتطوير.
يعتمد هذا الفصل على الأفكار التي وردت في المناقشات أثناء المؤتمر تحت عنوان "مناقشة مكافحة الفساد في التعليم مع أصحاب المصلحة"، وكذلك على جميع الأوراق التي قدمت للمناقشة حول هذا المحور، وبصفة أساسية الورقة التي قدمها إسماعيل سراج الدين بعنوان "تأسيس نظام للتميز في التعليم المصري".
المراجع
http://www.developmentgateway.com.
http://web.worldbank.org
http://humandevelopment.bu.edu
مكتبة الاسكندرية