حلول مصرية للأزمة:
وقد ردت مصر على كل ذلك بإعلان أن ما سبق من اتفاقيات (أثناء
الاستعمار) يظل ساريًا طبقًا لمبدأ التوارث الدولي (وهو ما أقرته أيضًا منظمة
الوحدة الأفريقية) إلى أن تحل اتفاقيات تفاوضية جديدة محل الاتفاقيات القديمة، وأن
تكون هذه الاتفاقيات برضاء جميع الأطراف المعنية، وسعت لإنشاء آلية لفض المنازعات
بين دول الحوض منعًا لتفاقم المشاكل.
كما طرحت مصر على لسان الدكتور محمود أبو زيد وزير الموارد
المائية والري -في الدورة الجديدة لوزراء مياه دول حوض النيل التي تعقد في نيروبي
منتصف مارس 2004- فكرة استفادة دول الحوض بجزء من الفواقد المائية للتساقط المطري
على حوض النيل، وإنشاء صندوق لتمويل المشروعات يلحق بالبنك الأفريقي للتنمية بصورة
مؤقتة، وعقد اجتماع للجنة التفاوض المشتركة حول الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة
آلية حوض النيل، وشددت رغم ذلك على التمسك بمبدأ الحقوق التاريخية لاستخدامات مصر
لمياه النيل.
أيضًا من المتوقع أن تناقش قمة الاتحاد الأفريقي في سرت
بليبيا (مارس 2004) بحضور رؤساء دول حوض النيل مشكلة المياه عمومًا في القارة
السوداء، وأن تؤكد مصر على أن مسألة مياه النيل من الأمور "الإستراتيجية" بالنسبة
لها، على اعتبار أن مصر بحاجة اليوم إلى 73 مليار متر مكعب من المياه لمشاريعها
الزراعية التي تغطي 4% فقط من مساحة البلاد، ويقول خبراؤها إن هناك مع ذلك عجزا في
المياه تعاني منه مصر بنحو 24 مليار متر مكعب.
كذلك سعت القاهرة لتلطيف الأجواء ونفي ما يثار عن بيع دول
المنبع المياه لدول المصب، ومنها تصريح لوزير الري المصري محمود أبو زيد لصحيفة
الأهرام المصرية الرسمية 15 فبراير 2004 أكد فيه -عقب عودته من اجتماعات خبراء
ووزراء المياه والزراعة في أفريقيا- أن وزراء المياه في أوغندا وتنزانيا وكينيا
أكدوا له أن ما يثار عن بيع المياه لمصر لا يعبر عن المواقف الرسمية للحكومات
الأفريقية، ولا يتعدى كونه تصريحات صحفية لا تعبر بالمرة عن المواقف الرسمية وآراء
الحكومات التي تلتزم بها.
ونقل الوزير المصري عن وزراء حوض النيل أن حكوماتهم جادة في
دعم مبادرة آلية حوض النيل والرؤية الشاملة ومشروعات الأحواض الفرعية للنيل مع
دعمها أعمال لجنة التفاوض التي بدأت اجتماعاتها في يناير 2004 بأديس أبابا.
وكانت دول الحوض قد اتفقت في اجتماعها الوزاري في العاصمة
الأثيوبية أديس أبابا سبتمبر 2003 على "آلية جديدة لحل نزاعات دول حوض النيل"
والاتفاق على حل أي نزاع مائي بين دول الحوض بالطرق الودية دون اللجوء إلى استعمال
القوة، بحيث تساهم الصناديق الدولية والدول المانحة والغنية في تمويل هذه المشروعات
لصالح شعوب دول الحوض.
كما اتفقوا على ضرورة عقد اجتماعات وطنية بكل دولة من دول
الحوض للتعريف بأهمية مبادرة آلية "نهر النيل الجديدة"؛ وذلك لدرء أي محاولات
للوقيعة بين شعوب وحكومات دول الحوض، وقرروا البدء في تنفيذ أول المشروعات المشتركة
طبقًا للآلية الجديدة في بداية شهر أكتوبر المقبل، والممولة من الجهات الدولية
المانحة بمبلغ 25 مليون دولار بهدف اقتسام مياه النيل.
وهذه المبادرة (مبادرة حوض النيل) التي تهدف إلى بناء الثقة
بين دول النيل تتصل بمشروعات ذات منافع مشتركة، وتشمل بناء خزانات ومشروعات الربط
الكهربائي، بالإضافة إلى تطوير الإدارة المبكرة للفيضانات والجفاف وأعمال الوقاية
مثل مشروعات مكافحة التصحر والجفاف والمساقط لتوليد الطاقة الكهربائية في مواضع
الخزانات المختلفة في أثيوبيا.
والحقيقة أن محاولات إبرام اتفاقات تعاون بين دول الحوض جرى
تنشيطها في أعقاب إعداد التجمع البرلماني لجماعة دول شرق أفريقيا (كينيا وأوغندا
وتنزانيا) تقريرًا في أغسطس 2003 حول اتفاقية ماء النيل عام 1929 بين مصر وبريطانيا
انتهى للمطالبة بمراجعة نصوص الاتفاقية مع اقتراح بيع مياه البحيرات العظمى لمصر
والسودان؛ وهو ما أثار أزمة كبيرة وبوادر حرب مياه في المنطقة.
وخلال شهر ديسمبر 2003 وفي مناسبة انعقاد مؤتمر وزراء مياه
عموم أفريقيا، ثم المؤتمر الوزاري لدول حوض النيل العشر تفجر النقاش حول الموضوع في
الصحافة المصرية، وقد ألقى الوزير المصري محمود أبو زيد محاضرة حول "السياسات
المائية في دول حوض النيل" نشرتها صحف القاهرة في يناير 2004 تتضمن جوانب قانونية
خاصة بمبدأ التوارث الدولي وجوانب سياسية وتنظيمية خاصة بالسياسة المصرية التي تتخذ
أسلوب التعاون بدلاً من المواجهة؛ وهو ما أدى إلى النجاح في تجاوز أزمة نشبت في ذلك
الوقت بين مصر وكينيا، أعقبها بدء طرح آلية التعاون وفض المنازعات.
ويوازي التحركات المصرية لتبريد أزمة المياه المشتعلة
محاولات حثيثة لزيادة موارد مصر من مياه النيل، خصوصًا مع ترقب إبرام اتفاق تسوية
سلمية للنزاع في جنوب السودان سوف يسهم في إحياء مشروع قناة جونجلي وتجفيف مستنقعات
الجنوب لتحصل مصر والسودان على حوالي 8 - 10 مليارات متر مكعب إضافية من مياه
النيل.
حيث بدأت أعمال حفر هذه القناة (بطول 360كم) عام 1978 وتوقفت
عام 1984، أي بعد عام من اندلاع الحرب في الجنوب السوداني؛ بسبب غارة قام بها
المتمردون على موقع العمل في هذا المشروع.
القضية بالتالي خطيرة رغم محاولات التخفيف منها، وربما تكون
مبادرة حوض وآلية فض المنازعات المطروحة بين دول الحوض، إضافة إلى المبادرات
المصرية بالتعاون مع دول منابع النيل كلها مسكنات ومهدئات للأزمة، ولكن المشكلة أن
احتياجات كل دولة من المياه لمشاريع الزراعة تزداد، والتحريض الدولي أيضًا يزداد
بسبب مطامع تاريخية صهيونية في المياه وثأر غربي تاريخي مع مصر، ومحاولات لاستغلال
هذا الملف في الضغط عليها.
أما أخطر ما في الحلول المطروحة لحل مشكلة المياه في حوض
النيل فهو أنها في الأساس مبادرات أوربية ودولية وليست نابعة من دول المنطقة؛ وهو
ما يفتح الباب أمام التدخلات الدولية في المنطقة؛ ولهذا يبدو التحدي الأول أمام مصر
والسودان لحل هذه المشكلة هو تقوية أواصر التعاون المباشر مع دول النيل والدخول في
مشاريع تنمية مشتركة لدول الحوض.