القيادة الأثيوبية وميراث العداوة
والحبشة أو أثيوبيا تمثل تجسيداً حقيقياً وتاريخاً كبيراً ومتجذراً في عداوة العالم
الإسلامي، على الرغم من كونها المركز الثاني في الأرض الذي وصلت إليه دعوة الإسلام،
عندما هاجر إليها عدد من الصحابة الهجرتين الأولى والثانية، في شهر رجب من العام
الخامس للنبوة، حيث هبطوا في مدينة مصوع"،
وأحسن النجاشي استقبالهم وصدقهم، ثم آمن النجاشي بالإسلام واختلف مع بطارقته
وقساوسته الذين أضمروا الحقد والحسد على المسلمين والإسلام، وأصبح هذا الحقد
والبغضاء ميراث الكنيسة الحبشية التي يحرص القساوسة والرهبان الأحباش على نقله
وتوريثه من جيل إلى آخر، ويتضخم عبر العصور ويزداد مع الزمان، وتشحنه الأحداث،
فكلما حقق المسلمون انتصارًا وفتحوا بلداً كلما ازدادت عداوة الأحباش وتأججت نار
أحقادهم ضد المسلمين.
فعندما تقدم المسلمون في أرض الروم وانتصروا عليهم في مواطن كثيرة، تحركت الأحقاد
الحبشية وتربصوا بالمسلمين الدوائر وانتهزوا فرصة ثورة ابن الأشعث بأرض العراق سنة
83
هجرية، وشجعت الكنيسة الحبشية بعض القراصنة الأحباش على الإغارة على جدة؛ فقاموا
بالسطو عليها وتدمير السفن الراسية بالميناء، وقتلوا كل من استطاعوا قتله ولاذوا
بالفرار تحت جنح الظلام، فرد الخليفة عبد الملك بن مروان بإرسال حملة استولت على
جزر "دهلك"
في البحر الأحمر وجعلتها قاعدة لها وأقامت فيها حامية لرد أي عدوان حبشي، فارتدع
الأحباش ولم يقفوا في وجه التجارة الإسلامية في القرن الأفريقي.
ولم ينتهِ القرن الهجري الأول حتى بني المسلمون مدينة
"هرر"،
والتي غدت مركزاً إسلامياً مستقلاً تماماً عن الحبشة، وظلت
"هرر"
مستقلة عن سلطان الأمهرية الحبشية حتى سنة
1314
هجرية (1896
ميلادية)،
وقامت "هرر"
بدور بارز في نشر الإسلام في القرن الإفريقي خاصة في إريتريا التي أصبحت إسلامية
بالكامل في بداية الخلافة العباسية، وخضعت إريتريا للخلافة العباسية وعرفت باسم
إقليم "باضع"،
وهاجر إليها الكثير من المسلمين العرب وتأسست مملكة إسلامية صغيرة في شرق إقليم
"شوا"
عرفت باسم السلطنة المخزومية، وذلك سنة
283
هجرية؛ فانتشر الإسلام في أقاليم الحبشة.
ورد الأحباش على هذا المد الإسلامي الجارف في بلادهم بالاضطهاد والتنكيل والتقتيل
لمسلمي الحبشة، ومن شدة الاضطهاد استنجد مسلمو الحبشة بالسلطان أحمد بن طولون في
القرن الثالث الهجري، وطلب بطريرك مصر من بطريرك الحبشة الكف عن أذى المسلمين غير
أن إمبراطور الحبشة ازداد في حربه على المسلمين وهدد بقطع مياه نهر النيل إن فكر
ابن طولون في نجدة مسلمي الحبشة، أي أن فكرة قطع مياه النيل ليست وليدة اليوم، إنما
هي إرث الكنيسة الحبشية، وكارت الإرهاب الذي ترفعه أثيوبيا في وجه مصر منذ أكثر من
ألف سنة.
أثيوبيا ومحور الشر
وفي القرن العاشر ظهرت القوة البرتغالية البحرية ونجح البرتغاليون في الدوران حول
إفريقيا وهددوا جنوب الجزيرة العربية وهاجموا الموانئ في الخليج العربي والبحر
الأحمر وانتصروا على المماليك، واستولوا على مدينة زيلع الإسلامية وأحرقوها، فأرسلت
ملكة الحبشة "إلينى"
برسالة تهنئة وتناصر لملك البرتغال
"عمانوئيل"،
وهي رسالة تفيض بالحقد والكراهية على الإسلام والمسلمين، وفيها تعرض
"إلينى"
خدماتها على عمانوئيل، ولأهمية هذه الرسالة أذكرها بنصها
:
[السلام
على عمانوئيل سيد البحر وقاهر المسلمين القساة الكفرة، تحياتي إليكم ودعواتي لكم،
لقد وصل إلى مسامعنا أن سلطان مصر جهز جيشًا ضخماً ليضرب قواتكم ويثأر من الهزائم
التي ألحقها به قوادكم في الهند، ونحن على استعداد لمقاومة هجمات الكفرة بإرسال
أكبر عدد من جنودنا إلى البحر الأحمر وإلى مكة أو جزيرة باب المندب، وإذا أردتم
نسيرها إلى جدة أو الطور؛ وذلك لنقضي قضاءً تاماً على جرثومة الكفر، ولعله قد آن
الوقت لتحقيق النبوءة القائلة بظهور ملك نصراني يستطيع في وقت قصير أن يبيد الأمم
الإسلامية المتبربرة، ولما كانت ممتلكاتنا متوغلة في الداخل، وبعيدة عن البحر الذي
ليس لنا فيه قوة أو سلطان فإن الاتفاق معكم ضروري؛ إذ أنكم أهل بأس شديد في الحروب
البحرية].
وبالفعل احتلت الحبشة مملكة
"عدل"
سنة 927
هجرية، وشعر العثمانيون وقتها بخطورة التهديدات الحبشية وخطورة الحلف الصليبي بين
البرتغال والحبشة فأسس العثمانيون قاعدة عسكرية بحرية كبيرة في مدينة
"زيلع"
فقويت عزائم المسلمين واستعادوا مملكة
"عدل"،
واستعادت الممالك الإسلامية مجدها واتسعت مملكة
"عدل"
حتى شملت الصومال والدناقل وهرر، وأوشكت الهضبة على السقوط، فاستغاثت الكنيسة
الحبشية ببابا روما وعرضت عليه التبعية والخضوع لسلطانه، ولكن مع الاحتفاظ بالمذهب
الأرثوذكسي وذلك سنة
942
هجرية، فأرسل البابا جيشاً صليبياً بقيادة
"كريستوفر
دي جاما"
ابن "فاسكو
دي جاما"
الملاح الصليبي الشهير، غير أن هذا الجيش الصليبي هُزم شر هزيمة أمام جيش سلطنة
"عدل"
وقتل قائده واستطاع الإمام أحمد بن إبراهيم سلطان
"عدل"
أن يفتح إقليم تجرة سنة
945
هجرية، وأوشكت مملكة الحبشة على السقوط فأرسلت البرتغال قوات ضخمة لنجدة الأحباش،
وجرت معركة رهيبة بين الطرفين عند بحيرة
"تانا"
في قلب الحبشة سنة 952
هجرية، استشهد فيها أحمد بن إبراهيم وهُزم جيشه، فرد مسلمو هرر بالهجوم على الحبشة
سنة 967
هجرية وقتلوا ملك الحبشة.
عقيدة الكراهية وأيدلوجية العداء
هذا عن محور الشر القديم، أما في الحديث فقد كان لأثيوبيا محور آخر التحقت به، ففي
مطلع الثمانينات من القرن الماضي وقف وزير الدفاع الأمريكي
"روبرت
ماكنمارا"
في مجلس النواب الأمريكي ليعرض تقريرًا خطيرًا، أمام لجنة القوات المسلحة التابعة
لمجلس النواب، كانت أهم فقرة فيه ما يلي
:"إن
مصالح أمتنا في القارة الإفريقية مركزها أثيوبيا"؛
وكانت أمريكا تعمل دائمًا لإبراز أهمية أثيوبيا في القارة الإفريقية؛ كي تستطيع
تنفيذ سياستها الاستعمارية من وراء ذلك، وقد سعت كثيرًا وضغطت أكثر وأنفقت أموالاً
ضخمة حتى تكون أديس أبابا مركز منظمة الوحدة الإفريقية.
وعلى امتداد التعاون الوثيق بين أمريكا وأثيوبيا، تعاون الكيان اليهودي الغاصب مع
الأحباش تعاونًا قويًا متينًا,
واعتبرت أثيوبيا نفسها دولة اليهود في إفريقيا، وقامت بتهجير يهود الحبشة المعروفين
بالفلاشا بأعداد ضخمة إلى دولة الكيان الصهيوني؛ لإحداث توازن ديموغرافي بين اليهود
والفلسطينيين، وفي المقابل انهالت المعونات المالية والعسكرية والتقنية اليهودية
على الحبشة، وتدفق الخبراء العسكريون اليهود على الحبشة، وأقاموا معسكرات تدريب
للأحباش على حرب العصابات للعمل ضد المقاومة الإسلامية في إريتريا والأوجادين؛ حتى
بلغ عدد العسكريين اليهود في الحبشة ثلاثة آلاف خبير عسكري يعملون في مختلف
القطاعات، وباشروا القتال الفعلي ضد مسلمي إريتريا والأوجادين وهرر.
ولكي نفهم الرابط الذي يجمع كل هؤلاء الأعداء الرئيسيين للعالم الإسلامي، لابد من
فهم الأيدلوجية التي تسيطر علي عقولهم، فالأحباش والأمريكان واليهود تجمعهم
أيدلوجية واحدة، تسيطر على عقولهم، وتحكم قراراتهم وتوجهاتهم هذه الأيدلوجية تقوم
على فكرة مزج عقائد الصليبية الأرثوذكسية والبروتستانتية الأصولية مع الصهيونية
المتطرفة؛ لتمثل في النهاية أسوأ العقائد والأيدلوجيات الدينية، والتي تنتهج مبدأ
عداوة الإسلام والمسلمين ومحاربتهم، وهذا المبدأ هو ركيزة هذه الأيدلوجية والمحرك
الرئيس، وبالتالي الموجّه العام لسياسات هذه الدول الثلاث التي تمثل محور الشر في
القرن الأفريقي.
المسارات المتقاطعة
بالطبع التصريحات النارية التي أطلقها زيناوي، جاءت عن قيادة تعلم علم اليقين بأن
مصر لن ولم تقدم علي خطوة من ذلك النوع، والاتهامات بدعم المتمردين عارية تماما من
الصحة، وأزمة مياه نهر النيل مهما تعالت وتيرتها فلن تصل إلي حد الحرب الشاملة حتى
وإن أرادت مصر ذلك فلن تستطيع لاعتبارات سياسية وعسكرية واقتصادية وفنية، والحديث
عن مجموعة "السيل"
الفدائية التي تتدرب في مصر علي تنفيذ حرب صاعقة علي أثيوبيا هو حديث خرافة لا دليل
عليه، فلماذا إذا هذه التصريحات العنيفة ضد مصر؟.
من وجهة نظر كثير من المتابعين لشأن القرن الأفريقي فإن الحرب الإعلامية الراهنة
بين مصر وأثيوبيا مجرد قمة جبل الجليد الذي ينطوي على تقاطعات دبلوماسية وسياسية
بسبب النفوذ الافتراضي لكلا البلدين في السودان والصومال والاعتقاد بأن مصر تستخدم
نفوذها في الصومال لصالح المجموعة التي تناوئ أثيوبيا وتدخلها في الشأن الصومالي
عسكرياً وسياسياً.
وفيما يتعلق بالسودان، فإن أثيوبيا على عكس ما تظهر دبلوماسياً فإنها غير مرتاحة
لتحركات الدبلوماسية المصرية على الساحتين السودانية والدولية لتفادي الانفصال الذي
بات وشيكاً، فأثيوبيا قد دفعت باستثمارات ضخمة في مجالات الفندقة وتوابعها في جوبا
فيما نشط مصر والجامعة العربية في مجالات اقتصادية أخرى قد تجعلهما الأكثر تأثيراً،
ولعل رفض اقتراح الكونفدرالية المصري جاء بضغط مباشر من أثيوبيا التي تسعي جاهدة
لفصل السودان وإقامة تحالف صليبي جديد في القلب الإفريقي، مع دولة الجنوب المترقبة.
ومن بين معكرات صفو العلاقة بين البلدين تطورات ملف أزمة مياه النيل، حيث نجحت
الدبلوماسية المصرية في تأجيل توقيع أربعة دول علي الميثاق الجديد لتوزيع حصص
المياه، مما ينذر بإمكانية عودة الملف للمربع رقم صفر، أي لاتفاقية
1929
والتي ترفضها دول المنبع بشدة.
أيضاً النفسية التي تتحكم بعقل ميليس زيناوي رئيس الوزراء الأثيوبي الذي استلم
منصبه بعد معارك أهلية كبيرة وواسعة في أثيوبيا في مرحلة ما بعد الشيوعية وحكم
منجستو هيلا مريم، فزيناوي يسعي إلى تقديم نفسه لشعبه على أنه
"زعيم
تاريخي"
وأن وجوده في الحكم يمثل نقطة تحول في تاريخ البلاد، يريد من هذا التعنت والتصعيد
تجاه دولة بحجم وتاريخ مصر أن يصف قدميه مع الإمبراطور هيلاسيلاسي ومنليك الثاني
وإليني وغيرهم من مشاهير حكام أثيوبيا، حتى أنه ليضحي باستثمارات مصر في أثيوبيا
والتي تفوق المليار دولار في مجالات الزراعة والتعدين والكهرباء، من أجل هذا الطموح
الجانح.
زيناوي يعاني من مشاكل داخلية كثيرة، من أهمها ضعف التنمية الاقتصادية في بلاده،
وتدهور مستوي المعيشة للأثيوبيين، وتنامي نشاط الجماعات المعارضة، تذمر الكثير من
أبناء أثيوبيا من أسلوب إدارة الأماهرة للبلاد، وتواجه إثيوبيا حركات تمرد شديدة في
إقليم "أوجادين"
الشرقي من قبل الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين، ومن جبهة تحرير أورومو في أوروميا،
أكبر الولايات التسع الاتحادية بالبلاد.
وعلى الرغم من أن الحكومة وقعت اتفاق سلام الشهر الماضي مع فصيل من الجبهة الوطنية
لتحرير أوجادين، الذي يسكنه أغلبية مسلمة، إلا أن الجبهة قالت أمس أنها قتلت
90
جندياً من الجيش الإثيوبي خلال الأسابيع الخمسة الماضية.
النفوذ الصهيوني
وأخيراً لا يسعنا أن نغفل الدور الصهيوني في مسألة التصعيد الأخيرة، فأثيوبيا تعتبر
أوثق حلفاء إسرائيل في إفريقيا، والنفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري والتقني
الصهيوني في أثيوبيا أكبر مما يظن فيه الحيادية والنزاهة، ولا يقول متقول إن علاقات
مصر بإسرائيل أقوي من علاقاتها بأثيوبيا وإسرائيل تحتاج مصر أكثر من أثيوبيا ولن
تجازف بعلاقاتها مع مصر من أجل عيون زيناوي، فإسرائيل حتى كتابة هذه السطور تعتبر
مصر والمصريين هم الخطر الأكبر علي الكيان الصهيوني، وأن السلام الفاتر القائم
بينهما، من الممكن جدا أن يزول بتغيير الأوضاع السياسية المصرية، والذي قد يكون
أقرب مما يتصور الكثيرون.