الوضع المائي
الصراع الدولي لا يحدث في فراغ وإنما هناك تفاعل يتم في بيئة الصراع الدولي سواء في
المحيط الإقليمي أو الدولي له وقد يكون التفاعل سلبًا أو إيجابًا وهذه البيئة تنقسم
إلى بيئة داخلية
(والتي
تتجسد في عناصر ومكونات النظام)
ثم هناك البيئة الخارجية
(وهي
تشكل الإطار الخارجي الإقليمي والدولي)
وبهذا المنطق نستطيع القول بأن الصراع الدولي ما هو إلا سلوك استجابي لمجموعة من
المتغيرات التي تحدد نمط وحجم ودرجة الصراع وهي لذلك تعرف بمحددات الصراع الدولي.
وبالنظر إلى النظام الإقليمي لحوض النيل,
يلاحظ موجات الجفاف التي تتعرض معظم دول حوض النيل مع بداية ثمانينات القرن المنصرم
قد أدت إلى تكالب الدول على مياه النهر ومصادر المياه التي تعتبر محدودة,
وبذلك فقد أصبح الوضع المائي في حوض النيل الذي ينصرف إلى الخصائص الطبوغرافية
والميتولوجية والهيدرولوجية قد أفرز نمط من التفاعل الصراعي المائي في حوض النيل
وقد ساعد على تبلور تلك الصراعات الوضع القانوني في الحوض الذي يعاني غياب الإطار
القانوني,
العام والشامل الذي ينظم شئون النهر.
وعلى ذلك فأن الدراسة ترى أن الوضع المائي في حوض نهر النيل,
بالإضافة إلى الوضع القانوني في ذلك الحوض يمثلان معا محددات الصراع المائي في
النظام الإقليمي لحوض نهر النيل,
وهو سوف يتم تحليله من خلال هذا الفصل لكل من المحددين
( )
الـمـبـحـث الأول
الـوضـع الـمـائـي كـمـحـدد للـصـراع الـمـائـي بـيـن مـصـر ودول حـوض الـنـيـل
يمكن تحليل العلاقة بين الوضع المائي في حوض النيل والصراع الدولي من خلال استخدام
مؤشرات للتحقق ما إذا كانت دول حوض النيل تعاني من محدودية في الموارد المائية أما
وفرة مع التركيز على الموارد المائية المصرية وتأثير ذلك على الصراع بين مصر ودول
حوض النيل.
أولاً
:
المؤشر الكمي للمحدودية
استنادًا إلى المعيار الكمي نستطيع القول بأن دول حوض النيل لا تعاني من محدودية في
مواردها المائية بل تمتاز بالوفرة والحجة أنه اعتمادًا على مؤشر خط الفقر المائي
الذي تجاوزه جميع دول الحوض فيما لو تم اعتماد تقسيم الإيرادات المائية تقسيمًا
متساويًا بين دول الحوض.
درجة اعتماد دول حوض النيل ليست متساوية في اعتمادها على مياه النيل فهي تقل كلما
اتجهنا جنوبًا حيث تزداد الأمطار والأنهار والبحيرات وكلما اتجهنا إلى الجنوب ناحية
مصب الحوض قلت الأمطار ومن ثم زادت درجة الاعتماد على النهر وخصوصًا في شمال
السودان وتصل إلى أقصاها في مصر التي تعتمد على النيل في توفير كل مواردها المائية
السطحية تقريبًا.
فهو يوفر لمصر ما يزيد عن
95 %
تقريبًا من إجمالي احتياجاتها المائية وبالإضافة إلى ذلك فأنه تجدر الإشارة إلى أن
جميع دول الحوض باستثناء مصر لها مصادر مائية اخرى من داخل أراضيها أو من خارجها
غير نهر النيل
( ).
وتعتبر مصر هي الدولة الوحيدة في حوض النيل التي تستخدم تقريبًا كل إيرادها المائي,
ومصر قد تكون أكثر بلدان شمال أفريقيا وشرق أفريقيا معاناه حيث تتباعد فترات هطول
الأمطار ويعتمد سكانها كليًا على مياه النيل,
وتتزايد احتياجاتها من مياه الشرب والغذاء بإطراد سريع بين الأعداد المتزايدة
للسكان بها ولذلك يرجح أن تتعدى احتياجاتها من مياه الشرب والغذاء
(الاحتياجات
المائية)
الإمدادات السنوية للمياه.
وهو ما يعني أن مصر هي الدولة الوحيدة في حوض النيل التي تعاني من محدودية في
مواردها المائية وذلك إذا ما تم مقارنة احتياجاتها المائية بما يتوافر لديها من
مصادر للمياه المتجددة.
والخلاصة أن جميع دول الحوض لم تتعرض ولم تعاني من محدودية في المياه حيث لا تزال
استخدامها أقل بكثر من مواردها المائية المتجددة سنويًا,
وبالتالي فأن هناك محدودية في دولتي المصب في حين تتمتع دول المنبع بوفرة في
مواردها المائية.
ثانيًا
:
المؤشر النوعي للمحدودية
:
تمتاز مياه نهر النيل في جميع أنحاء مجراه من أقصى منابعه وحتى السد العالي بالنقاء
الشديد ويرجع ذلك إلى أن سمات الطبوغرافية والميترولوجية والهيدرولوجية للنهر تلعب
دروا في جعل مياهه نقية باستمرار
( ).
1-
من الناحية الطبوغرافية
:
يمتاز النهر بالإنحدار الشديد من الجنوب إلى الشمال وضيق المجرى في بعض المناطق
والعمق الشديد في مناطق أخرى وكل ذلك يساعد على جريان المياه باستمرار وبسرعة ومن
ثم فهي ليست مياه راكدة كالمستنقعات.
2-
من الناحية الميتروبولوجية
:
تعرض المياه للشمس يمنع تكون البكتريا في المياه وبالتالي تصبح مياه النهر نقية.
3-
الهيدرولوجية
:
تتعدد
الروافد لحوض النيل وتنوع في مواسمها وتتباين في كميات الإيراد المائي الذي تحمله,
الأمر الذي يساعد باستمرار على التجدد المستمر لمياه النهر.
لذا فأن مياه النهر من الناحية النوعية جيدة ونستطيع القول أنه ليس هناك محدودية من
الناحية النوعية.
ثالثًا
:
المؤشر الاقتصادي للمحدودية
:
بعد
أن استعرضنا المؤشر الكمي والذي من خلاله خلصنا إلى نتيجة موادها أن دول حوض النيل
باستثناء دولتي المصب وبخاصة مصر لا تعاني من محدودية في مواردها المائية,
وأيضًا من الناحية النوعية نجد أن مياه النهر تحظى بنقاء عالي وجودة من الناحية
النوعية.
ولكن
يبقى هناك عامل غاية في الأهمية وهو المؤشر الاقتصادي وكيف يؤثر على استغلال مياه
النهر ويخضع المؤشر الاقتصادي إلى عدة عوامل منها الفقر ونسبة السكان وهو ما سوف
يتم التعرض له.
طبقًا
لتقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي في عام
2004,
تعتبر دول حوض النيل من أفقر الدول النامية,
فهي جمعيًا
–
عدا مصر-
تقع في فئة الدول الأقل دخلاً,
وتعتبر مصر هي الدولة الوحيدة التي تقع في فئة الدول ذوات الدخل المتوسط
( ),
وقد انعكست حالة الفقر الشديد التي تعتبر السمة الرئيسية لدول حوض النيل
–
عدا مصر
–
على قدرات تلك الدول على توفري البنية الأساسية ذات الصلة بالمياه.
تفتقر
هذه الدول إلى بنية أساسية لازمة لنقل وتوصيل المياه إلى كافة مواطنيها فضلاً عن
عدم وجود تغطية معقولة لشبكات الصرف الصحي في معظم تلك البلدان.
ويلاحظ أن جميع دول حوض النيل باستثناء مصر تعجز عن إيصال إمدادات المياه بصورة
دائمة لنسبة كبيرة من مواطنيها وهو ما يجعلنا نستطيع القول أن دول حوض النيل تعاني
من
(فقر
مائي)
بالمفهوم الاقتصادي بمعنى عدم توافر الموارد المالية اللازمة لتشيد البنية الأساسية
ذات الصلة بمنظومة نقل وتخزين وتوصيل المياه إلى القطاعات العريضة من شعوب تلك
الدول.
وبعد
استعرض المؤشرات الثلاث لقياس
"
محدودية الموارد المائية
"
يتضح أن حوض نهر النيل غنى كميًا ونوعًا بموارده المائية,
بيد أنه فقير جدًا بموارده الاقتصادية,
وفقير في قدراته التنظيمية اللازمة لإدارة تلك الموارد المائية,
ويترتب على ذلك أن المحصلة النهاية هي توفر المياه مع عدم استطاعة نسبة كبيرة من
شعوب تلك الدول على استخدام المياه في الشرب أو للصرف الصحي,
ومن ثم فأن النتيجة النهائية لهذه العملية على وجه العموم هي محدودية الموارد
المائية في حوض نهر النيل وذلك نظرًا لضالة القدرة على استخدام المياه من ناحية,
وسوء إرادتها والتخطيط لها من ناحية ثانية وإذا كنا قد وصلنا إلى نتيجة مؤداها
محدودية في الموارد المائية في حوض النيل استنادًا إلى تفاعل المؤشرات الثلاثة
(الكم
والنوع والموارد الاقتصادية)
معًا فأن هذه
"
المحدودية
"
قد تزداد حدتها مع الوقت وذلك بسبب تأثير عدد من العوامل منها
:
التغيرات المناخية التي يترتب عليها ارتفاع في درجة الحرارة بشكل عام,
التأثيرات الناتجة عن التلوث البيئي,
بالإضافة إلى الزيادة الكبيرة في أعداد السكان مع ما يترتب عليها من ضغوط اقتصادية
وخصوصًا في مجال الزراعة,
للوفاء بالاحتياجات الغذائية المتزايدة.
وبعد
تحليل المؤشرات التي يمكن من خلالها تحديد ما إذا كان هناك محدودية في الموارد
المائية في النهر أما هناك وفرة في تلك الموارد وقد خلصنا أنه نتيجة تفاعل المؤشرات
الثلاثة المحدودية فأن تلك الدول تعاني من محدودية في الموارد المائية بالإضافة إلى
عدة متغيرات تؤثر على الوضع المائي في حوض النيل مثل المتغيرات البيئية والمناخية
وما يصحب ذلك من دورات الجفاف,
بالإضافة إلى التغيرات الديمغرافية الناتجة عن تزايد أعداد السكان في دول حوض النيل,
بالإضافة إلى عدم التوازن الإقليمي في توزيع الموارد المائية علاوة على الفقر
الشديد في الموارد الاقتصادية.
وقد
تفاعلت هذه العوامل هذه العوامل والمتغيرات في منظومة واحدة في حوض نهر النيل خلال
الفترة محل البحث
(1990 - 2010)
لتفضي إلى قيام ظاهرة الصراع المائي الدولي بين دولتي المصب والتي تعاني من محدودية
المياه مع دول المنبع التي تتمتع بوفرة المياه وتعاني من فقر الموارد الاقتصادية
لاستغلال المياه.
فمصر
تعتمد على أكثر من
95 %
من احتياجاتها للمياه في حين تحتاج أثيوبيا
1 %
من مياه النهر وكينيا
2 %
تقريبًا وتنزانيا
3 %
والكونغو
1 %
وبوروندي
5 %
والسودان
15 %
ذلك لأن كثافة هطول الأمطار في هذه الدول تجعلها غير محتاجة إلى النهر,
وهو ما يفضي في النهاية إلى عدم التوازن في توفير المياه مما يخلق صراع على المياه.